عندما طلب منى الصديق صلاح دياب مؤسس «المصرى اليوم» منذ أكثر من خمس سنوات أن أكتب عن شخصيات مختلفة من كل الجنسيات أكون قد تعرفت عليهم عن قرب بعلاقة مباشرة سواء فى حياتى الدبلوماسية أو الإعلامية أو البرلمانية أو الأكاديمية بدأت تلك السلسلة الطويلة لكى أقول للأجيال الجديدة من أبنائنا وبناتنا.
إن هناك نماذج رائعة من البشر فى الداخل والخارج، وإن وطننا العظيم يضم عناصر متميزة فى المجالات كافة، فالقدوة الصالحة هى التى تصنع المستقبل، والنموذج الرائع هو الذى يضىء الطريق، وها أنا ذا أكتب اليوم عن مناضلٍ من طرازٍ رفيع، ارتبط بكل من الفكر اليسارى والعصر الناصرى، ثم ظل قابضاً على مواقفه مع قدر متوازن من المرونة السياسية فيما لا يؤثر على مبادئه، نائب برلمانى عن إحدى دوائر مدينته «الإسكندرية» وصاحب استجواباتٍ شهيرة فهو محدث بارع وخطيب مفوه ومحاور مقنع.
أعرفه منذ سنوات منظمة «الشباب العربى الاشتراكى» فى منتصف الستينيات من القرن الماضى عندما كان واحداً من الموجهين اللامعين فى قافلة «عبدالغفار شكر» وغيرهما من الشباب المتألق حينذاك، تزاملنا فى مهام برلمانية فى الخارج، فكان نعم الرفيق والممثل المحترم لبلاده، له مواجهة شهيرة مع الرئيس الراحل «أنور السادات» عندما تقدم الرئيس باتفاقيات «كامب ديفيد» لمجلس الشعب، الذى كان يترأسه حينذاك صهره المهندس «سيد مرعى»، ويبدو أن المصاهرة بين رئيس الدولة ورئيس إحدى الغرفتين فى البرلمان هى تقليد قديم لايزال سارياً حتى الآن، ويومها وقف البرلمانى الشاب «كمال أحمد» لكى يصيح فى وجه الرئيس الجالس على المنصة (هذه اتفاقية عار.. هذه اتفاقية خيانة) فرد عليه الرئيس الراحل قائلاً (ماذا تقول؟).
فكررها «كمال أحمد» ثانية عندها طلب رئيس الدولة من رئيس البرلمان تطبيق اللائحة على العضو المشاغب، فتم طرده من الجلسة، ويقول لى السيد «كمال أحمد» إنه اتصل بأسرته فى الإسكندرية ليطلب منهم إعداد لوازمه الأساسية، استعداداً لاحتمال ترحيله إلى المعتقل، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وتلك قيمة يتذكرها السيد «كمال أحمد» فى موضوعية وتقدير للرئيس الراحل الذى لم يبطش به ولم يجعله محلاً للتنكيل أو حتى الإقصاء! ولقد وقف السيد «كمال أحمد» فى تجرد كامل ليعلن أمام الرئيس السابق «مبارك» فى أحد الاجتماعات بمقر الرئاسة أنه يرد الاعتبار للرئيس السادات متذكراً تسامحه وسعة صدره، وقبوله للرأى الآخر مع أنه كان يملك كل أدوات القمع إن أراد.
ويبدو أن الرئيس السابق «مبارك» لم يستحسن هذه المداخلة، وشعر السيد «كمال أحمد» بذلك ووافقته يومها على ملاحظته، إنه كمال أحمد صاحب الاستجوابات النارية، التى كان يجب أن تطيح بكثير من الوزراء, لكن تقاليدنا البرلمانية الغريبة كانت تتجاهل ذلك, وتنتقل إلى جدول الأعمال! وللسيد «كمال أحمد» نظرية فكرية أقبلها عن اقتناع, وهى أننا نعانى فى العالمين العربى والإسلامى وربما فى العالم «المتخلف» كله من «حلقة شريرة» قطباها «الاستعمار» و«الاستبداد»، فالتدخل الخارجى يولد الاستبداد الداخلى، كما أن الأخير يستدعى الاستعمار بكل صوره وأشكاله، وأحياناً نتهاتف أنا من «القاهرة» وهو من «الإسكندرية» فى حوار - مسجل بالطبع - حول قضايا الوطن والمواطن ومستقبل «مصر»، الذى تحيط به كل الاحتمالات، ومن حسن حظه أنه لم يكن عضواً فى «الحزب الوطنى الديمقراطى»، فلن ينطبق عليه «العزل الدستورى الجديد»، وأتذكر هنا مناضلاً آخر ساقته الأقدار ليحمل شكلياً عضوية ذلك الحزب المشؤوم، وأعنى به الطيار المدنى الكبير «حمدى الطحان»، ولعل السيد الرئيس «مرسى» يتذكر أن ذلك الرجل الذى يجرى تصنيفه حالياً فى قائمة المعزولين سياسياً هو من استرشد به البرلمانى اللامع حينذاك «محمد مرسى» منذ سنوات قليلة فى استجوابه الشهير الذى بناه على المعلومات الواردة فى تقرير شجاع أعده النائب المتميز «حمدى الطحان»، إننى أرى أن الوطن يفرِّط فى أبنائه ويعزل كوكبةً من أصحاب الرأى والخبرة جرياً وراء منطق التعميم وروح الانتقام! وأعود مرة ثانية إلى المناضل اليسارى الناصرى «كمال أحمد»، الذى امتدت علاقتى به لأكثر من أربعين عاماً عرفته فيها شاباً متحمساً ورجلاً مناضلاً وشيخاً مفكراً تشرفت به البرلمانات الوطنية والمحافل الدولية فهو ابن بار لمصر التحرر الوطنى، ولمصر العدالة الاجتماعية، ولمصر أم الجميع بلا تفرقة أو استثناء!
جريدة المصري اليوم
2 يناير 2013
https://www.almasryalyoum.com/news/details/192847