التكنولوجيا والثقافة
لا يتوقف تأثير التقدم التكنولوجى على أساليب المعيشة وطرائق الإنتاج والارتقاء بالخدمات، ولكنه يتجاوز ذلك كله ليصل إلى تأثيره الخطير فى العامل الثقافى، لذا فإنه يتعين علينا أن نعترف بأن حياتنا الثقافية وسلوكنا البشرى يرتبطان تلقائيًا بالخطوات المذهلة التى يدفعها التقدم التكنولوجى إلى عالمنا المعاصر حتى إن هناك اختراعات لا تجد مكانها للتطبيق بسبب وجود اختراع أحدث فى الوقت ذاته، فإذا كانت التكنولوجيا، فى تعريف مبسط، هى استخدام العلم فى خدمة الصناعة، فإن الأمر يتجاوز ذلك أيضًا لتترك التكنولوجيا بصماتها على الإطار الثقافى والبيئة الاجتماعية، بما يؤدى إلى حدوث تغيير كبير فى القيم والعادات والتقاليد على نحو يصل بنا إلى فصل جديد من فصول الحياة فى جميع نواحيها، فلقد استبدلت الأجيال الجديدة بالكتب المطبوعة والصحافة الورقية ما يحمله ذلك الجهاز الصغير الذى يضعه كل فرد فى جيبه يحمل له رصيدًا وفيرًا من المعلومات فى جميع مناحى المعرفة، فلا تصبح هناك ضرورة ملحة لدى الأجيال القادمة للتقليب بين صفحات الكتب وفصول المراجع واللهاث وراء الصحافة المطبوعة، فكل شىء قد تغير وأصبحنا أمام شبكة جديدة من العلاقات الاجتماعية لا تعتمد على التواصل الإنسانى المباشر بين أفراد الأسرة كما كان الأمر من قبل، فإذا نظرت إليهم فى جلسة عائلية لوجدت أن كل فتى وفتاة منكفئ على أحد أجهزة المحمول الذكية يبحث فيما يريد ويتابع ما يشاء وتظل الجلسات صامتة ويغيب الود الاجتماعى وتختفى الألفة الإنسانية التى قرأنا عنها وشعرنا بها، إننا أمام تحول غير مسبوق فى منظومة القيم ومصفوفة الأخلاقيات ومدونة السلوك، ولا شك أن هذا التقدم التكنولوجى بقدر ما يقدم من خدمة للبشرية إلا أنه يضعف فى الوقت ذاته الشعور المشترك بالانتماء العائلى والتواصل المجتمعى ونرى أنفسنا فى النهاية أمام نمط جديد وروح مختلفة تؤكد تأثير التكنولوجيا على الثقافة وأعنى الأخيرة بمعناها الواسع الذى يمتد إلى طبيعة التصرفات ونوعية العلاقات، لذلك فإن الترابط العائلى يتراجع والتواصل الإنسانى يضعف وتتصدر التكنولوجيا المشهد بكل ما لها وما عليها، بل إننى أعترف بالغربة وأنا أعبر المطارات مسافرًا، إذ تجد كل شىء قد تحول إلكترونيًا ولم تعد أساليب العقود الماضية هى التى تحكم إجراءات السفر، ولنا هنا عدة ملاحظات:
أولًا: إن على أساتذة العلوم السلوكية والدراسات الاجتماعية التصدى بقوة لمنظومة القيم الجديدة حتى يظل الماضى متواصلًا بالمستقبل من خلال الحاضر ونحن نكرر دائمًا أن الذى لا يفهم ماضيه سوف يتعثر فى حاضره، كما أن الإنسان هو سيد الآلة وصاحب الاختراعات الكبرى والنقلات النوعية، وقد آن الأوان لكى نرصد الظواهر العلمية وتأثيرها على حياتنا ونقلات التكنولوجيا وما تتركه من بصمات قوية لدى أجيالنا الصاعدة.
ثانيًا: إن التكنولوجيا الحديثة والتقدم المذهل لا يجب أن يكونا عشوائيين بل لابد من دراسة تأثيرهما على الجيل الجديد، خصوصًا أن تلك الأجيال قد قطعت أشواطًا واسعة على طريق الانتظام فى تطوير حياتنا وتطويع أساليبها بحيث لا تظهر فجوة بين العلم والتكنولوجيا فى جانب وبين الفكر والثقافة فى جانب آخر، وأنا شخصيًا ألاحظ كثيرًا معظم التحولات الجديدة التى تزيح الستار عن عالم مختلف وتقدم لنا كل يوم آراء مختلفة ونماذج رائعة توحى بأن المستقبل أفضل من الحاضر فى بعض الجوانب ولكنه لن يكون الأفضل على إطلاقه لأن اختفاء بعض المظاهر من حياتنا وانحسار مساحة المودة بين الأجيال المتعاقبة هو تعبير عن الجانب السلبى فى التطورات الهائلة التى شهدتها التكنولوجيا المعاصرة لذلك فإنه قد يكون من الأفضل أن نسمح بوجود القديم إلى جانب الجديد فيظل الكتاب إلى جانب المحمول الذكى وتبقى الصحافة الورقية ديوانًا للحياة وسجلًا للماضى.
إننا إذا فعلنا ذلك نكون قد حققنا التوازن المطلوب الذى يحافظ على الإيجابيات ويتخلص من السلبيات ويسمح بالتواصل بين الأجيال والعناق الدائم بين الفكر والعلم.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1344687