ينظر النَّاس –عامة النَّاس– إلى رجال الدين باعتبارهم معصومين من الخطأ وملائكة على الأرض تنقصهم الأجنحة، وقد يكون ذلك صحيحًا فى معظم الحالات، ولكن الواقع أن الأئمة ورجال الدين بشر يأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق، ويغضبون ويفرحون، ويحبون ويكرهون، فالبشرية صفة تلازم كل كائن حى يمشى على قدمين، ولقد عرفت من علماء الدين الإسلامى عددًا لا بأس به، إذ إننى أنتمى إلى «محافظة البحيرة» التى خرج منها عدد كبير من شيوخ الأزهر وعلمائه مثل «محمد عبده» و«شلتوت» و«حمروش» و«محمد البهى» و«عبدالعزيز عيسى» و«محمود حب الله» و«محمد مدنى»،
وغيرهم من عشرات الأسماء اللامعة فى تاريخ الأزهر الشريف، وقد اقتربتُ من الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوى، الذى كان يتصف بالتواضع المفرط والبساطة الشديدة، ولكن لأنه من أبناء «البلينا» فى الصعيد العظيم فإنه يكون أحيانًا حادًّا إذا ثار لدينه أو لوطنه أو لكرامته، وأنا أتذكر حاليًا لقاءه بأحد الصحفيين الشباب الذى استفزه بسؤال عن زيارة حاخام يهودى للأزهر الشريف فكاد الإمام الأكبر يضربه احتجاجًا على ذلك السؤال الخبيث، ولولا تدخل الشيخ الشعراوى لوصل الأمر إلى أقسام الشرطة وساحات المحاكم، وأتذكر أيضًا أن الإمام الأكبر الشيخ طنطاوى قد رفع قضية أمام القضاء ضد الصحفى الكبير عادل حمودة، ومساعده الدكتور محمد الباز، لأن صحيفتهما وضعت الشيخ فى صدر صفحتها الأولى وقد ارتدى زى البابا فى الفاتيكان، فكانت الصحيفة تعارض زيارة الشيخ وتخشى من عواقبها السلبية إذا لم يكن لها إعداد جيد، وكنت شخصيًّا أشاركهم ذات الرأى، وقد ألقيتُ محاضرة فى قاعة الإمام محمد عبده بدعوة من الدكتور أحمد الطيب رئيس جامعة الأزهر حينذاك وشيخ الأزهر بعد ذلك؛ لأننى خشيت من محاولة الالتفاف على الزيارة، خصوصًا أن بابا الفاتيكان «بنديكيت السادس عشر» كانت له مواقف سلبية من الإسلام والمسلمين، وقد اتصل بى زميل دراستى الأستاذ «عادل حمودة» لكى أدلى بشهادتى أمام النيابة، وقد فعلت ووصلت إلى المحكمة شاهدًا أيضًا، ووقعت فى يد قاضٍ فاضل لم أرَ له مثيلاً فى سعة أفقه وثراء ثقافته وفهمه العميق للشريعة الإسلامية والقانون الوضعى معًا، وقد أدليتُ بشهادتى أمامه، وسألنى فى نهاية الحديث إذا كنتُ أستطيع أن أصلح بين الإمام الأكبر والصحيفة، وقرر أن يعطينى فرصة للقيام بهذه المهمة، وكان معنا الأستاذ مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين حينذاك، الذى ذكر أنه سوف يدعم تلك المصالحة بحكم موقعه الإعلامى، وذهبتُ بعدها بيومين إلى مكتب الإمام الأكبر على موعد معه، وقلتُ له: «يا فضيلة الإمام إن استمرار القضية فى الحالتين خسارة للأزهر، فإذا كسبتها الصحيفة أساء ذلك إلى الأزهر، وإذا خسرتها أساءت إليه أيضًا، ومن الأفضل أن يرتفع إمام المسلمين شيخ الأزهر عن النزول إلى مثل هذه المواجهات»، وبدا لى كما لو كان الشيخ مُقتنعًا، وأصرَّ على توديعى عند المصعد، فقلت له: «هل أعتبر الأمر مُنتهيًا إن شاء الله يا فضيلة الإمام؟»، لكنه فاجأنى بقوله: «بل أنا مُصرٌّ على موقفى، فكرامة الأزهر وشيخه فوق الجميع»، وكانت تلك مفاجأة لى وانتهى الأمر بالحكم بغرامة مالية على الصحيفة، ولا أظن أن الأزهر الشريف استفاد من ذلك الموقف شيئًا، وقد كتبتُ من قبل عن غضب الإمام «الشعراوى» فى قاعة كبار الزوار بمطار القاهرة وتدخلى لمصالحته، حتى أنه لم يهدأ إلا عندما عرف أن اللواء طيار «عبدالعزيز بدر» مدير المطار حينذاك هو زميل للرئيس مبارك وقريب منه، ومُتزوج بابنة السفير الأفغانى الراحل «صادق مجددى»، فعلماء الدين يغضبون أحيانًا ويكون غضبهم شديدًا لأنهم لا ينزلون إلى الحياة العامة إلا اضطرارًا، وعلى الجانب الآخر من أئمة الإسلام رأيتُ من أصحاب القداسة فى الكنيسة القبطية مشاعر مماثلة فعندما كنتُ أذهب إلى البابا «شنودة الثالث» مُوفدًا من الرئيس الأسبق «مبارك» عندما يتعرض الأقباط لأزمة، وكنتُ أسأل البابا الرَّاحل: «هل أنت غاضب؟»، فكان يقول: «لا، بل أنا حزين!»، فيختزل الموقف كله فى شعور إنسانى نبيل دون الإساءة لأحد، وأتذكر أن الإمام الأكبر الشيخ «طنطاوى» قد اتصل بى فى أزمة السيدة «وفاء قسطنطين»، وقال لى: «إننى أريد أن تذهبا معى أنت وأسامة الباز، ونأخذ هذه السيدة لتعود إلى دارها ودينها، فهى لم تضف إلى الإسلام ولن تنتقص من المسيحية»، وتلك سماحة وحكمة أذكرهما لذلك الإمام الراحل.
مجلة 7 أيام
https://www.7-ayam.com/%d8%ba%d8%b6%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%a6%d9%85%d8%a9/