استدعتنى وزارة الخارجية النمساوية ذات صباحٍ لمقابلة الوزيرة (بينيتا فراو فالنر) -التى أصبحت منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبى فيما بعد- وقد بادرتنى الوزيرة بقولها (إنهم لا يرون منبرًا عالميًّا للإسلام إلا الأزهر الشريف)، ولأن الدين الإسلامى معترفٌ به كديانةٍ ثانيةٍ فى (النمسا) منذ عام 1912 فى ظل (إمبراطورية النمسا ومملكة المجر)، حيث كانت أجزاء كبيرة من الدولة تضم مسلمين من (صربيا) و(البوسنة) و(الهرسك)، ولذلك فإنها تريد أن يكون تدريب الأئمة والدعاة المسلمين فى بلادها تحت إشراف (الأزهر الشريف)، واقترحت الوزيرة إنشاء أكاديمية إسلامية لتدريب الدُّعاة المسلمين من (عرب) و(أتراك) و(إيرانيين) و(أفغان) وغيرهم ممن يشكلون الجالية الإسلامية الكبيرة فى النمسا، وقد اتصلت على الفور بالإمام الأكبر الراحل الدكتور (محمد سيد طنطاوى)، وبوزير الأوقاف الأسبق الدكتور (محمود زقزوق)، وبرئيس جامعة الأزهر الأسبق الدكتور (أحمد عمر هاشم)، ورحب الثلاثة بالعمل على إنجاح المشروع، مع شكر وزارة الخارجية النمساوية على المبادرة الطيبة، التى تعكس مشاعر الأخوة والمساواة بين أتباع الديانات السماوية الثلاث؛ الإسلام والمسيحية واليهودية، وقد قدم إلى العاصمة (فيينا) وفدٌ مصرىٌّ برئاسة الدكتور (زقزوق)، وأجرى الاتصالات اللازمة، وناقش الترتيبات المطلوبة لقيام تلك الأكاديمية الفريدة من نوعها فى ذلك البلد الأوروبى الراقى، وبالفعل ظهرت الأكاديمية الإسلامية، وأصبحت نموذجًا تُطالب به دول أوروبية أخرى، وبرغم الصراعات التى ظهرت داخل الأكاديمية، والاتجاهات المتضاربة، والمصالح المتعارضة، بين أبناء الجاليات الإسلامية -كالمُعتاد دائمًا- إلا أن الأكاديمية ظلت لسنوات تؤدى دورها بتدريس علوم الإسلام واللغة العربية، وقد تصادف فى تلك الفترة أن جاءنى صديقٌ عزيزٌ من أقطاب الجالية المصرية هو الراحل الدكتور (سمير إستينو)، ومعه وفدٌ من أقباط مصر فى (فيينا)، طالبًا منِّى التَّدخل كسفير لبلدهم لدى السلطات النمساوية، للسَّعى نحو توفير مبنى يؤدون فيه صلواتهم، لأن الكنيسة الحالية صغيرة للغاية، وتابعة لمقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقد استأجروها منذ مدة، وليس بها مرافق أو حتى دورة مياه، وبالفعل استجبت فورًا لسببين؛ أولهما أن هذا واجبى تمامًا كسفير لمصر فى تلك البلاد، والثانى لأننى معنىٌّ أكاديميًّا بدراسة شئون الأقباط وتاريخهم السياسى، وقد استقبلنى وكيل وزير الخارجية النمساوية السيد (كريستيانى) بناءً على طلبى، وناقشت الأمر معه، وأذكر أننى قلت له يومها (إن لديكم كنائس كاثوليكية كثيرة مغلقة، وياحبَّذا لو خصصتم لنا إحداها لنحيلها إلى دار عبادة للأقباط الأرثوذوكس)، وقد استقبل الدبلوماسى النمساوى اقتراحى يومها برفض حاسم قائلاً (إن الخلافات المذهبية بين الطوائف المسيحية لا تُساعد على ذلك، ولا تسمح به)، واقترح علىَّ مقابلة عمدة (فيينا)، لكى أطلب تخصيص قطعة أرض مناسبة، نشتريها لكى نبنى عليها كنيسة مصرية، وقد تم ذلك، وغيرنا موقع الأرض المتاحة أكثر من مرة، حتى تتناسب مع مقتضيات بناء الكنيسة، التى وضع حجر أساسها البابا الراحل (شنودة الثالث)، وافتتحها هو أيضًا بعد ذلك بسنوات قليلة، وأذكر أننى استقبلته ذات مرة فى مطار (فيينا)، وهو مُتجه منها بالطريق البرِّى إلى (بودابست)، حيث كان فى استقباله على الحدود بين الدولتين رئيس جمهورية المجر شخصيًّا، لأن (البابا شنودة) كان ضيف الشرف للاحتفال بمرور ألف عام على ميلاد الرهبنة، وإنشاء أول دير لها على أراضى (المجر)، ولأن الرهبنة نتاجٌ روحىٌّ للمسيحية فى (مصر) تاريخيًّا، فكان من الطبيعى أن يكون البابا الراحل هو ضيف الشرف.
تلك خواطر ألحَّت علىَّ وأنا أستمع إلى كلمات الرئيس (عبدالفتاح السيسى) فى الكاتدرائية المرقسية عشية يوم عيد الميلاد، عندما ذكر أنه قد قرَّر بناء أكبر مسجد وأكبر كنيسة فى العاصمة الجديدة، التى يجرى إنشاؤها حاليًا.. إنها (مصر) نموذج العناق التاريخى بين الإسلام والمسيحية على أرض الحضارات العظيمة والثقافات الرفيعة والديانات الكبرى!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 208
تاريخ النشر: 7 فبراير 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a3%d9%83%d8%a7%d8%af%d9%8a%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d8%a5%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d9%83%d9%86%d9%8a%d8%b3%d8%a9-%d9%82%d8%a8%d8%b7%d9%8a%d8%a9/