زار الدبلوماسي الأمريكي المخضرم (مارتن انديك) مصر أخيراً بهدف الإعداد لكتاب سوف يصدره عن (مباحثات كيسنجر والسادات)، وقد بلغ من دقته فيما يكتب وحرصه على سلامة المعلومة والاعتماد على المصدر المباشر أن قام فى أثناء هذه الزيارة بالذهاب إلى استراحة رئيس الجمهورية في القناطر الخيرية واستراحة رئيس الجمهورية في أسوان وهما المكانان اللذان عقدت فيهما معظم جلسات مباحثات السادات وكيسنجر، ولقد طلب (انديك) مقابلتي وسعدت بقضاء وقت في الحديث معه في أحد فنادق القاهرة، وكان ذلك الدبلوماسي السياسي الذي عمل سفيرًا للولايات المتحدة الأمريكية في إسرائيل ثم ترأس أحد المراكز البحثية المهمة في واشنطن يتحدث باستفاضة وصراحة خارج قيود الموقع والتزامات المنصب، فالرجل يقترب من السبعين ولكنه مبهور تمامًا بشخصية ذلك الدبلوماسي الداهية (هنري كيسنجر) الذي بلغ الخامسة والتسعين ومازال - على حد تعبير انديك - يقظًا ومتابعًا ويحمل ذاكرة فوتوغرافية تحفل بالتفاصيل وتحتوي على الملاحظات في وقتها، وعلى الجانب الآخر فلابد أن اعترف بأن (انديك) مبهور أكثر بشخصية أنور السادات وتاريخه غير التقليدي بين زعامات العالم وقد قال لي: إن كيسنجر يردد لي دائمًا أنه لولا السادات ما استطاع هنري كيسنجر أن يحقق ذلك الاختراق الدبلوماسي في الصراع العربي الإسرائيلي خصوصًا في فترة فك الاشتباك الأول والثاني عقب حرب 1973، وقد خرجت من حواري الطويل مع مارتن انديك ببعض الملاحظات التي أرى أن أشرك القارئ معي فيها:
أولًا: إن هنري كيسنجر وهو واحد من دهاة القرن العشرين ولولا أنه لم يولد على أرض أمريكية لكان من الطبيعي أن يكون سيد البيت الأبيض ذات يوم، ولكنه في موقعيه الرسميين مستشارًا للأمن القومي أو وزيرًا للخارجية قد قدم خدمات جليلة لبلاده فترك بصمة قوية على سياستها الخارجية وأسهم بقدر كبير في عملية الاختراق للصراع العربي الإسرائيلي خصوصًا في ظل رئاسة الرئيس الأمريكي الراحل (ريتشارد نيكسون)، بقي أن نتذكر أن كيسنجر هو صاحب نظرية (الغموض البناء) بترك العبارات مرنة والأفكار مطاطة بحيث تتيح لكل طرف أن يتوهم وجود إيجابيات له، كما أنه هو الذي أدخل عنصر الزمن في حل الصراعات، على اعتبار أن ما يرفضه طرف اليوم قد يقبله غدًا فلابد أن تبقى الملفات على مائدة التفاوض حتى ولو كانت مغلقة. ثانيًا: تتحدث الكتابات الغربية التي عاصرت الرئيس المصري الراحل أنور السادات عنه باعتباره شخصية أسطورية حتى وصفه المستشار الألماني (هيلموت شميت) بأنه واحد من أعظم زعماء القرن، كما أن الكونجرس الأمريكي سوف يحتفل قريبًا بمنح السادات الميدالية التذكارية اعترافًا بفضله وتقديرًا لمكانته.
ثالثًا: إن من يتابع كتابات كيسنجر وحواراته سوف يكتشف أن مصر تحتل لديه مساحة واسعة من الخريطة الاستراتيجية لمنطقة غرب آسيا، كما أن ما يردده كيسنجر دائمًا يؤكد أهمية القرار المصري وعظمة دوره على مر القرون وأمام مختلف الظروف، واضعين في الاعتبار أن كيسنجر كان دائمًا من أشد المؤمنين بالدور المصري وأهمية سياسة السادات في الانتقال من حالة الحرب إلى حالة السلام.
رابعًا: لقد كان من أهداف زيارة (انديك) الأخيرة للقاهرة لقاء بعض الشهود الأحياء ممن عاصروا فترة تلك المحادثات، وقد استعرض معي بعض الأسماء ولكنه اكتشف رحيلهم جميعًا، فاقترحت عليه اسم الدبلوماسي المصري المتميز عبد الرءوف الريدي خصوصًا أن (انديك) أبلغني أنه التقى السيد أحمد أبو الغيط وسوف يلتقي الدكتور نبيل العربي كما اقترحت عليه أن يلتقي السفيرين نبيل فهمي وزير الخارجية السابق ومحمد أحمد إسماعيل سفير مصر الأسبق في دمشق على اعتبار أن كليهما قد علم بتفاصيل إضافية من أبويهما الراحلين وزيري الخارجية والدفاع في الحكومة المصرية فى أثناء حكم السادات، وقد اقترحت عليه أيضًا أن يعود إلى الأرشيف الذي يضم وثائق تلك الفترة في مصر وخارجها، وبدا لي أن الرجل قد قطع شوطًا كبيرًا في ذلك وأن لديه نهمًا شديدًا في الوصول إلى أدق التفاصيل في كتابه القادم.
خامسًا: لقد سعد الرجل كثيرًا عندما اقترحت عليه الذهاب إلى لندن لالتقاء العناصر الباقية في الخارجية البريطانية ممن عاصروا فترة السادات - كيسنجر ذلك أن الدبلوماسي الأمريكي الكبير كان يمر بالعاصمة البريطانية في طريقه إلى الشرق الأوسط ثم يمر بها مرة ثانية في طريق عودته إلى واشنطن على اعتبار أن الدبلوماسية البريطانية هي أكثر المدارس الدولية وعيًا بتاريخ الشرق الأوسط وأحداثه وقياداته، ولذلك فإنه قد يجد هناك ما لا يجد له مصدرًا آخر في القاهرة أو واشنطن، بل واقترحت عليه بعض الأسماء أذكر منها الدبلوماسي البريطاني المخضرم (ديفيد جوربوث) الذي كان رئيسًا لقسم الشرق الأوسط في الخارجية البريطانية كما كان سفيرًا لبلاده في المملكة العربية السعودية، وتمنيت له أن يكون على قيد الحياة مع بعض الأسماء الأخرى التي تداولتها مع السيد مارتن انديك في ذلك اللقاء المثير الذي شعرت فيه برائحة التاريخ وأهمية بعض الأحداث في تشكيل واقع الحياة وخريطة المستقبل.
لقد كان ذلك ملخصا لأهم ما دار من حديث في لقائي مع ذلك المسئول الأمريكي السابق الذي مازال يدس بأنفه في مجريات الأحداث وتطور السياسات، وقد بدا لي أن أفكار ومبادرات هنري كيسنجر كانت محورية التأثير في الصراع العربي الإسرائيلي والمشكلة الفلسطينية تحديدًا وأن السادات مازال يمثل لدى العقل الأمريكي شخصية أسطورية بكل المقاييس .. رحمه الله.