استشعرت - ومعى الكثيرون - خطورة الأجندة التشريعية عندما تأخذ اتجاهاً يخدم مصالح حزب معين أو جماعة بذاتها أو فئة دون غيرها، وزاد ذلك الإحساس بالخطر الحقيقى عندما أحسست بأن «السلطة التشريعية» تسعى إلى تحقيق أقصى استخدام للحظة الراهنة فى مسار الوطن المصرى لتصفية حسابات الأغلبية الحالية، لا مع قوى سياسية معينة، فهذا أمر مبرر، ولا مع قطاعات حكومية، فذلك أمر مفهوم، لكن الأمر الذى أقلقنى وشد أبصار مواقع كثيرة إقليمية ودولية هو تلك المحاولة الواضحة لتوظيف الدور التشريعى فى تحقيق هدف إضعاف السلطة القضائية والنيل من «المحكمة الدستورية العليا»، التى أنشأها الرئيس الراحل «أنور السادات»، منذ أكثر من أربعين عاماً، والتزم الرئيس السابق «حسنى مبارك» بتنفيذ أحكامها، وهى مؤسسة قضائية عليا نعتز بها ونفاخر، ويرى كثير من المعنيين بالشؤون الدستورية فى العواصم الكبرى أن هذه المحكمة المصرية تكاد تكون هى «الثالثة» فى عالمنا المعاصر من حيث المكانة والفاعلية والقدرة على اتخاذ المواقف الواضحة مهما كانت تبعات ذلك، ومهما بلغت كلفته السياسية، إنها «المحكمة الدستورية»، التى قامت بحل مجلس الشعب مرتين على الأقل، وألزمت الدولة المصرية - فى ظروف العصر الذى اتسم بالفساد والاستبداد - بتطبيق نظام الإشراف القضائى الكامل فى الانتخابات النيابية، فهى المحكمة التى تعتبر حارسة الدستور وحامية تلك الوثيقة الرفيعة، والتى تلزم الجميع بتوفيق أوضاع كل القوانين والقرارات معها، وفقاً لمكانة تلك الوثيقة شديدة التأثير قوية الحضور فى حياة الشعوب، وأعنى بها «الدستور»، لذلك عندما وصلتنى نسخة من الاقتراح بقانون الذى تقدم به أحد أعضاء مجلس الشعب للجنة «الشكاوى والاقتراحات»، ثم «اللجنة التشريعية» بعد ذلك واطلعت على النص بالكامل شعرت بفزع شديد، فالهدف واضح وهو أن تمتطى السلطة التشريعية إحدى مؤسسات السلطة القضائية فى عدوان صارخ على دورها وحرمان كامل لأدائها وتحجيم لتأثيرها وإنهاء للسوابق فى تاريخها، فقرار «مجلس الشعب» - من وجهة نظر ذلك المشروع الجديد - إذا جاء بأغلبية ثلاثة الأرباع لا يخضع للرقابة الدستورية إطلاقًا، كما أن قرارات المحكمة الدستورية العليا بحل أحد المجلسين النيابيين أو المجالس المحلية يكون معدوم التأثير متوقف النفاذ مادمنا لا نزال نعيش فى ظل التعبير الشهير «سيد قراره»، ولنا هنا ثلاث ملاحظات، أولاً: إن توقيت تقدم العضو المبجل من المجلس الموقر بهذا المشروع للجنة «الاقتراحات والشكاوى» يثير تساؤلات كثيرة، فالكل مشغول بالانتخابات الرئاسية، والكل مشحون بالأحداث المتسارعة، وهناك أولويات مطروحة واهتمامات معروفة، فلماذا نسعى إلى تسريب مثل هذا المشروع فى هذا التوقيت بالذات؟ وإذا كنا نسعى للإصلاح الحقيقى للسلطات الثلاث وضمان استقلالها واحترام دورها فما المبرر لفتح جبهة صراع فى هذا الظرف الحساس فى حياة الشعب المصرى؟
ثانيًا: إن هذا المجلس النيابى الموقر الذى جاء بإرادة شعبية عليه أن يتحسس نبض الجماهير، وأن يدرك أولويات معاناتها وأن يعطى اهتمامًا أكثر لمشكلات الناس وهمومهم وشواغلهم، ولأنه «برلمان الثورة»، فعليه أن يتبنى برامج إصلاحية حقيقية لا تقوم على تصفية الحسابات ولا تنطلق من مشاعر كيدية ولا تعتمد أساليب انتقامية ولا موضوعات انتقائية، إنه مجلس الشعب المصرى، شعب العشوائيات وسكان المقابر والأربعين فى المائة تحت حزام الفقر، والمعدلات المخيفة فى الزيادة السكانية، لذلك فإن النكوص عن بعض قوانين الأسرة ومحاكمها والتشريعات المتصلة بالطفولة وحدودها والمرأة ومكتسباتها هى ردة لا مبرر لها، خصوصًا أنها نتاج للتطور الطبيعى لا تنسب لمرحلة سياسية مضت فنرفضها ولا لشخصيات بذاتها فنشجبها، إننا محتاجون لرصيد هائل من الموضوعية والحياد الوطنى والاستجابة لإرادة المسحوقين والمعذبين والضعفاء لا لإهواء السياسيين وأصحاب الأجندات وذوى الأطماع.
ثالثًا: إن متابعة الشهور الأخيرة تعطى انطباعاً بأن «برلمان الثورة» يتصرف من منطلق لحظى ويعوض حرمان الأغلبية لسنوات طويلة من شهوة الشعور بالطغيان والإحساس بالغلبة ونشوة النصر الذى يزول دائمًا بمنطق تداول السلطة ودوران النخبة، ورغم أن المجلس يضم شخصيات لها قدرها فإن الأصوات العالية داخله لا تعبر عن ذلك بالضرورة.
.. إن الأصل فى الدولة الحديثة أنها دولة القانون التى تؤمن بمبدأ «الأمة مصدر السلطات»، وتعترف بأهمية الفصل بينها مع احترام كل منها والابتعاد عن المساس باستقلالها، ولنتذكر دائمًا أن التشريع أداة للبناء وليس وسيلة للانتقام.
جريدة المصري اليوم
23 مايو 2012
https://www.almasryalyoum.com/news/details/220392