تصيبنا حالة من الدهشة تصل إلى حد الدوار ونحن نلتقط أخباراً ومعلومات حول بعض الفتاوى الدينية المطروحة على الساحة هذه الأيام. ولعل موضوع «مضاجعة الوداع» هو نموذج مفزع لمحاولة تشويه الإسلام الحنيف والإساءة إلى المسلمين على نحو غير مسبوق، بل إننى أزعم أننى لم أصدق ما سمعته فى البداية وظننت أنه مجرد مزحة سخيفة، لكن عندما طالعته فى الصحف الغربية وسمعت عنه حتى فى الصحف الإسرائيلية أدركت أننا ندخل منعطفاً خطيراً ويقوم بعضنا، بوعى أو بغير وعى، بالإساءة إلى الدين الذى جعل التفكير «فريضة إسلامية» وفتح باب الاجتهاد المحكوم بالثوابت وجعل مصادر الشريعة واضحة جلية، فهم يحاولون إعطاء انطباع ظالم عن هذا الدين العظيم الذى يقوم على إعمال العقل واحترام الحياة وإجلال الموت ويريدون أن يجعلوا من هذا الإسلام الحنيف مثاراً للتندر ومادة للسخرية. وهنا أتساءل: هل فرغت حياتنا من كل القضايا المهمة والأمور الملحة ولم يعد أمامنا إلا البحث فى بعض المسائل التى لا تهم أحداً والتنقيب فى دهاليز الفتاوى المتهافتة طلباً للإثارة ورغبة فى لفت الأنظار إلى ما لا يجب.
أين مشكلاتنا الاقتصادية؟ وأين قضايانا الثقافية؟ وأين مسؤوليتنا السياسية؟ وأين قضايا التعليم والتنمية والعدالة الاجتماعية؟ يبدو أننا قد حققنا كل ذلك وقضينا على الفساد وأنهينا الاستبداد ولم يعد أمامنا إلا قصة «مضاجعة الوداع» بعد أن قامت الدنيا ولم تقعد منذ سنوات قليلة عند فتوى «إرضاع الكبير». وأتذكر أننى كنت فى «لندن» فى ذلك الوقت وتابعت الضجة الإعلامية فى الصحافة البريطانية ورسوم «الكاريكاتير» الساخرة فى إساءة مباشرة للإسلام والمسلمين ولم يكن بيدنا أن نلوم أحداً، فنحن الذين فعلنا ذلك بأنفسنا وأسأنا إلى ديننا الذى يرفض ما يتعارض مع الإيمان الواعى والتفكير السليم ولا يقبل الخزعبلات والأراجيف والافتراء على الله ونبيه. وإننى لا أصدق أن مثل هذه القضايا تتردد فى أروقة «برلمان الثورة» أو حتى فى دهاليز لجانه، لذلك كانت صدمة الرأى العام قوية وقاسية، لأننا نتوقع من نواب الأمة أن يبحثوا فى «فقه الأولويات» المتصلة بحياة المصريين. فأين الخطة الوطنية للقضاء على «العشوائيات» بمنطق الإحلال والإبدال؟ وأين التركيز على قضية تعمير «سيناء» وإزالة الألغام من «الصحراء الغربية»؟ وأين يقف ملف «مياه النيل» بمخاطره وتداعياته؟
وأين يقع «البحث العلمى» من خريطة أولوياتنا؟ وما الرؤية العصرية للدولة الحديثة فى بلادنا؟ وأين إرادة التغيير فى حياتنا؟ أين ذلك كله من تفرغنا للبحث فى أضابير التاريخ وملفات عصور التخلف والابتعاد عن صحيح الدين؟ بل أين ذلك كله من التهديدات التى تحيط بالأمن القومى المصرى وتهدد المصالح العليا للكنانة؟ هل تعلمون- أيها السادة- أن مصر مستهدفة داخلياً وخارجياً كما لم يحدث لها من قبل؟! وهل هذه هى العقلية التى نتعامل بها بعد ثورة 25 يناير 2011؟ هل فرغنا من إعداد الدستور الدائم للبلاد وانتخاب الرئيس الأنسب لمستقبلها، بحيث تطفو على السطح مثل هذه الفتاوى الغريبة فى بلد «الأزهر الشريف»- أكبر مركز إسلامى فى العالم وأكثرها استمراراً لما يزيد على ألف عام بغير انقطاع، وهل تاهت «وثيقة الأزهر» التى نباهى بها ونفاخر ونراها رصيداً فكرياً رائعاً ونتاجاً روحياً ساطعاً تبدد الظلمات وتضرب الخرافات وتفتح أبواب الأمل أمام المسلمين عموماً والمصريين خصوصاً فى حياة يسودها التسامح وحرية الرأى، حياة لا تعرف التعصب والتزمت أو الغلو والتشدد.
إننى أجد فى هذه الفتوى الأخيرة التى لا أفضل ترديدها، ولا حتى فى مجال نقدها ورفضها، أرى فيها مناسبة لتنقية العقل المصرى من الشوائب التى علقت به والأوهام التى سيطرت عليه وأدعو كوادر التيار الدينى سلفيين وإخواناً إلى توظيف قدراتهم فى الخدمة الحقيقية للإنسان- خليفة الله فى الأرض وتأكيد ذاته واحترام طموحاته وتلبية احتياجاته، كما نطالب المصريين جميعاً مسلمين ومسيحيين بأن يتجهوا نحو تحديث العقل الجمعى وتنقية الذاكرة الدينية والوقوف على أرض وطنية خالصة من أجل «مصر» التى نريد أن يسعد فيها أبناؤها جميعاً دون إقصاء أو استثناء حتى نرى شعبنا العظيم وقد أصبح بحق «الكل فى واحد»!
جريدة المصري اليوم
2 مايو 2012
https://www.almasryalyoum.com/news/details/219720