أعرفه عن قرب الدكتور «على جمعة» مفتى جمهورية «مصر العربية» والذى يحلو لنا أن نسمى وظيفته بالاسم التاريخى «مفتى الديار المصرية» وهو رجل جمع بين الثقافتين المدنية بحصوله على بكالوريوس التجارة جامعة «عين شمس» والدينية بحصوله على الليسانس ثم الدكتوراه من «جامعة الأزهر» وهو نمط إسلامى متميز يتطلع لأن يصلى فى كل بقاع الأرض وأن يكون متشرفًا بزيارة الحرم الثالث بعد الحرمين وأن يرى الأقصى رأى العين، وربما كان هيامه بذلك الهدف هو الذى دفعه دون تفكير طويل لتلبية الدعوة الملكية الأردنية للقيام بالزيارة التى حدثت منذ أيام.
وقامت معها الدنيا ولم تقعد، وواقع الأمر أن هناك مدرستين فيما يتصل بزيارة الأماكن المقدسة الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلى فى مدينة «القدس» الشريف، الأولى: ترى أن الذهاب إليها سواء للمسجد الأقصى أو كنيسة القيامة هو نوع من الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية وتكريس للاحتلال بل يذهب دعاة هذه المدرسة إلى ما هو أبعد من ذلك وهو أن مثل هذه الزيارات تعتبر نوعًا من التطبيع مع دولة تنتهك حقوق الشعب الفلسطينى وتغتصب أرضه وتواصل العدوان عليه وتمارس سياسة عنصرية توسعية استفزازية بغير حدود، ولقد رأى قداسة البابا الراحل «شنودة الثالث» برؤيته الثاقبة ونظرته البعيدة أن ذهاب أقباط مصر لزيارة «القدس» ومعالمها الروحية تحت الاحتلال الإسرائيلى هو نوع من الاستفزاز للمشاعر العربية وخروج عن الصف وانفراد بموقف يمكن أن يمثل سابقة سلبية فى التاريخ القبطى المعروف بمسايرته للأشقاء المسلمين فاتخذ قراره التاريخى منذ 1981 رغم كل الضغوط التى مورست عليه سياسيًا ودينيًا.
وفور رحيله يكاد العقد ينفرط، حيث ذهب عشرات من الأقباط لزيارة «القدس» بدوافع أجزم بأنها دينية وليست أبدًا سياسية، ولقد برزت هذه المدرسة فى التحليل بعد زيارة مفتى «مصر» الأخيرة التى لقيت معارضة شديدة من كل من هب ودب، وتطوع الكثيرون باتخاذ مواقف عنترية ضد الرجل الذى سعى للزيارة بدافع ثقافى كامل ودينى مطلق دون أى حسابات سياسية بالمرة، أما المدرسة الثانية فهى ترى غير ذلك من منظور دينى وقومى إذ إن تدفق آلاف من المسلمين والمسيحيين العرب على مدينة «القدس» سنوياً هو تأكيد لعروبتها واعتراف ضمنى بأنها جزء لا يتجزأ من «فلسطين»، كما أن فيها تأكيدًا بأن اليهود لا يستأثرون بتقديس المدينة، إذ إن أتباع «المسيحية» و«الإسلام» لديهم حقوق تاريخية ومزارات روحية فى مدينة ظلت تحت الحكم العربى على امتداد ما يقرب من خمسة عشر قرنًا.
ولقد استمعت من قبل لرأى واضح للعالم الإسلامى الجليل الدكتور «محمود حمدى زقزوق»، وزير الأوقاف الأسبق، يحبذ فيه هذه المدرسة الفكرية التى ترى السماح للمسلمين والمسيحيين بزيارة الأماكن المقدسة الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين العربية الإسلامية المسيحية، ويرى أن منع الحجاج العرب من زيارة الأقصى وكنيسة القيامة هو تأكيد لانفراد «إسرائيل» بالدعاوى الباطلة حول هيكل المعبد ووجود تراث «سليمان» نبى الله الذى يتمسحون به، ولقد تأرجحت الآراء بين المدرستين من مؤيد ومعارض، وظل الأمر دائمًا محل جدل إلى أن جاءت الزيارة المثيرة التى قام بها الدكتور «على جمعة» للمسجد الأقصى - ثالث الحرمين - الذى قتل على بابه الملك «عبدالله بن الشريف حسين» عاهل شرق الأردن، وكان بصحبته لحظتها حفيده الملك الراحل «حسين بن طلال» كما صلى فيه الرئيس الراحل «السادات» مستهلاً مبادرته التاريخية من أجل السلام فى الشرق الأوسط، ولنا على زيارة المفتى المصرى ملاحظتان:
الأولى: استحالة الفصل بين الصفتين الشخصية والوظيفية فى الحياة العامة، فالفرد ابن المؤسسة، ومن المستحيل أن نقول إن الدكتور «على جمعة» مواطن عادى ونغفل انتماءه القوى والرسمى لمؤسسة أزهرية ذات مكانة رفيعة فهو يجلس على كرسى الإمام «محمد عبده»، أما الملاحظة الثانية فهى أن التوقيت- والشيخ لم يختره ولكن الدعوى فاجأته بغير استعداد- غير مناسب، إذ إن رحيل «البابا شنودة» وخروج أعداد من أتباع الكنيسة «الأرثوذكسية» المصرية على تعليمات البابا الراحل وذهابهم للزيارة حتى قبل مضى أربعين يومًا على وفاته- كان يجب أن يدق جرس إنذار للمفتى المصرى العالم المستنير الذى يدرك معنى المواءمة السياسية وتأثير الظروف المحيطة، ولسوف يذهب بعض الأقباط إلى الأنبا «باخوميوس» قائم مقام البابا قائلين إنك تريد مواصلة منعنا من هذا الطقس الدينى الذى نريده دعمًا للقضية الفلسطينية بحيث لا ندخلها إلا مع أشقائنا المسلمين كما قال البابا الراحل، الآن يا صاحب النيافة ألا ترى أن هذه الحجة قد سقطت، وأن واحدًا من أقطاب العالم الإسلامى قد قام بزيارة علنية لتلك الأماكن المقدسة فأصبح حرماننا منها غير ذى موضوع، خصوصًا أن قيادات فلسطينية قد باركتها وشجعت عليها رغم رفض البعض لها، ونحن نرى أن زيارة المفتى المصرى هى زيارة دينية ثقافية لا علاقة لها بالسياسة، ولكن التوقيت لا يبدو موفقًا، كما أن القرار يبدو منفردًا رغم تسليمنا بدوافعه الطيبة واعترافنا بثقافته الواسعة وتقديرنا للجانب الروحى فى هذه الزيارة التاريخية.
جريدة المصري اليوم
25 أبريل 2012
https://www.almasryalyoum.com/news/details/219519