فى الأسابيع الأولى من قيام ثورة 25 يناير 2011 كان اسم «مصر» يحلق فى السماء حتى أوقف سائق التاكسى سيارته فى أحد شوارع العاصمة البريطانية عندما اكتشف أن الراكب «مصرى» وأصرََّ على مصافحته يدًا بيد تقديرًا للشعب المصرى وعرفانًا بما قام به شبابه، ولعلنا نتذكر ما قاله ساسة العالم فى ذلك الوقت عن الثورة المصرية كثورة ملهمة، وأن المصريين يعيدون صنع الحضارة من جديد مثلما فعلوا دائمًا عبر تاريخهم الطويل، بل لقد زاد الأمر على ذلك بأن دعا حكام العالم الكبار إلى اتخاذ الشباب المصرى قدوة لشباب بلادهم، هكذا كنا فكيف أصبحنا؟! هذا هو السؤال المهم فكأنما كُتب علينا ألا نفرح كثيرًا وألا نسعد طويلاً!!
فارتبكت الأمور وقفزت أجندات عقائدية وقوى سياسية على الثورة المصرية تسرق جهد الشباب وترتفع على أشلائه ودماء شهدائه وتفرغ الجميع للانتقام من الجميع، وتهاوت مثل كثيرة، وتراجعت القيم الأخلاقية بشكل ملحوظ، وكأنما كُتب على المصريين إما أن يعيشوا فى ظل الفساد والاستبداد أو يعيشوا فى ظل الفوضى والانفلات الأمنى والكيدية الدائمة وتصفية الحسابات بينما «مصر» تستحق ما هو أفضل من ذلك بكثير، ولقد أصبحنا فى عيون العالم مصدر قلق وبؤرة توتر، إذ يكفى أن نتأمل مواقف بعض الدول الخليجية تجاه العمالة المصرية فى ظل الظروف المعقدة التى تمر بها البلاد، فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التى يواجهها المصريون بينما يتساءل العرب (مصر إلى أين؟!)، ولقد شعرت بالخوف الحقيقى على «مصر» يطل من أعين كثير من أشقائنا الذين يرون أن مستقبلهم مرتبط باستقرار «مصر» وأمنها وسلامتها، كما أنهم يدركون أن التغيير الذى جرى فى «مصر» كان حتميًا ولكن تداعياته هى مصدر القلق تجاه أكبر دولة عربية وأكثر دول الشرق الأوسط تأثيرًا لذلك سوف نبحث فى رؤية العالم لما يجرى فى «مصر» على مستويين أولهما «إقليمى» والثانى «دولى» لعلنا نستطيع تقديم «مصر الثورة» بصورتها الحقيقية دون تجنٍّ عليها أو ظلم لها وذلك من خلال المحورين التاليين:
أولاً: إن «إسرائيل» التى ترقب عن كثب ما يجرى فى «سوريا» وتنظر بنصف عين إلى ما يحدث فى «حزب الله» وتفكر فى عمل انتحارى عسكرى ضد «إيران» مع بدايات الشهور الأولى للرئاسة الأمريكية الجديدة، إن «إسرائيل» هذه تدرك أن «مصر» هى المحور الأساس فى مستقبل المنطقة كلها وفى تكييف طبيعة الصراع العربى الإسرائيلى برمته، لذلك فهى تتابع عن كثب التطورات اليومية فى «مصر» وترصد بقلق مجريات الأمور فيها لأنه يكون واهمًا من يتصور أن «إسرائيل» مطمئنة تمامًا إلى السلام التعاقدى مع «مصر» أو أن أطماعها قد انتهت فى أراضٍ مصرية من «سيناء»، كما أن ساسة الدولة العبرية يتصورون أن وصول «الإخوان المسلمين» إلى السلطة فى «القاهرة» لأول مرة قد يؤدى فى مرحلة معينة إلى حالة من التصعيد المحتمل فى ظل العلاقة الوطيدة بين «الإخوان» وحركة «حماس»، ويجب أن ندرك دائمًا أن أهداف «إسرائيل» التوسعية وسياستها العنصرية وأساليبها العدوانية لا تنتهى، وهو ما يجعلنا نؤمن بأن اليقظة الدائمة والتحسب المستمر ضروريان فى هذه المرحلة الدقيقة من حياة الشعب المصرى، كما أن بعض أشقائنا العرب لايزال يخشى عدوى ما جرى فى «مصر»، والبعض الآخر لا يتحمس لدعمها اقتصاديًا فى ظل ظروفها الحالية انتظارًا للاستقرار المطلوب.
ثانيًا: إن الظروف الدولية تبدو هى الأخرى مثارًا للدهشة ودافعًا للدراسة، فالكل يتغنى بالربيع العربى ولكن الكل أيضًا يتحسس الأوضاع الجديدة باحثًا عن مصالحه متسللاً بأجندته، فالمنطقة مستهدفة عبر التاريخ، و«الولايات المتحدة الأمريكية» على سبيل المثال تريد الحصول على ضمانات دائمة لأمن «إسرائيل» مع عدم المساس بمصالحها فى النفط العربى وضمان وجودها فى المنطقة بشكل دائم، ولو حصلت «واشنطن» على تأكيدات بتحقيق هذه المطالب من أى اتجاه فإنها سوف تتعامل مع النظام السياسى الذى يلتزم بذلك فى «مصر» أو غيرها سواء كان الحكم إسلاميًا دينيًا أو مدنيًا علمانيًا، إذ لا يعنيهم من يجلس فى قصر الحكم هل هو من «الإخوان المسلمين» أو «السلفيين» أو حتى «فلول الماضى»، فالعبرة فقط بمدى استجابة من يحكم لما تريده القوى الطامعة فى «مصر» والتى تمارس ضغوطًا بغير حدود عليها.
هذه قراءة عاجلة فى طبيعة النظرة الخارجية لما يدور على أرض «مصر» الطيبة فى ظل ظروف صعبة للغاية تحتاج من كل وطنى شريف أن يتعامل معها بمنطق تسود فيه المصلحة العليا للوطن وتتوارى منه الأجندات الشخصية والحزبية بل العقائدية أيضًا.. إننا أمام ظرف حاسم تتحدد به صورة «مصر المستقبل» وأجيالها القادمة.
جريدة المصري اليوم
18 أبريل 2012
https://www.almasryalyoum.com/news/details/53879