هو تعبير مشتق من «الشخص»، وهو يختلف عن «الموضوع»، فلقد لاحظت أن معظم القضايا التى نناقشها تخرج من منطلقات شخصية يجرى تلبيسها ثوب القضايا العامة ورداء الرأى، الذى يهدف إلى المصلحة.. العليا، رغم أنه أبعد ما يكون عن ذلك، «فالشخصنة» التى تنطلق من مصالح الشخص وتعكس عُقده النفسية وصراعاته الداخلية..
قد سادت حياتنا وسيطرت على جزء كبير من تفكيرنا، وضاعت، فى زحام ذلك، الروح الوطنية الصادقة والإعلاء الحقيقى لمصالح الوطن، «فالشخصانية»- كما نسميها أحياناً- تعكس اهتمام كثير من الساسة المصريين والمشتغلين بالشأن العام بمصالحهم الذاتية وارتباطاتهم الشخصية وآرائهم غير الموضوعية، وتفسر، إلى حدٍ كبير، جزءاً من الخراب السياسى والعطب الفكرى اللذين ينهشان فى العقل المصرى على مدار العقود الأخيرة، وما رأيت شعباً- وما أكثر ما رأيت- تحكم قياداته معادلات شخصية وحسابات ذاتية مثلما هو الأمر فى «مصر»، لقد عشت فى «الهند» سنوات، ورأيت أن ذلك الشعب الأشد فقراً يبدو لى أكثر انتماء لقضايا المصلحة العامة مما نحن عليه، مع تسليمى بأهمية الدافع الذاتى والحافز الشخصى فى حياتنا، لكنه ليس كل شىء فى النهاية، فهناك مصالح للجماعة البشرية تعلو فوق أجندات الأفراد وحسابات الأشخاص. والآن دعنا نفصل بعض ما أجملناه:
أولاً: إن التحليل النفسى للسلوك البشرى يؤكد أن «الأنا» مكونٌ أساسى لدى الإنسان، ولا ينكر أحد أبداً أهمية الدوافع السيكولوجية فى تحليل المظاهر السلوكية، لكن عندما تزيد نسبة الخاص على نسبة العام هنا يبدأ القلق على الوطن، وأعتقد أن هذه إشكالية غامضة فى حياة المصريين، نعبر عنها أحياناً بضعف الشعور بالانتماء فى السنوات الأخيرة، ونعبر عنها أحياناً أخرى بأنها ناجمة عن انشغال المواطن بهمومه ومصالحه، قبل أن يفكر على المستوى العام فى سلامة أرضه وكرامة شعبه.
ثانياً: لقد أدى فساد الحياة السياسية وغياب القدوة الوطنية إلى شعورٍ عام استقر فى أعماق الكثيرين، «مؤداه أن الكل فاسد»، فلماذا أكون أنا الصالح الوحيد؟ كذلك فإن إحساساً غامضاً قد وقر فى ضمير الكثيرين بأنه (عندما تسقط دار أبينا فليسحب كل من استطاع قالباً من بنائها)، كما يعبر عن ذلك أحد مأثوراتنا الشعبية، ويتصور البعض أن تحقيق مكاسب شخصية هو نوع من الذكاء و«الفهلوة»- وهى كلمة لا نظير لها فى قواميس اللغات الأجنبية! لذلك ظن البعض أن تحقيق مكاسب فى ظروف استثنائية قد يكون تعويضاً عن خسائر فى الأحوال الطبيعية.
ثالثاً: إننى أرى الكثيرين ممن يرفعون شعارات الولاء للثورة وركوب موجتها إنما انطلقوا فى السنوات الأخيرة من شعور الإحباط، نتيجة عدم حصولهم على مواقع تطلعوا إليها أو وظائف طمحوا إليها، فكانوا بحق مجبرين على أن يكونوا ثواراً ومستفيدين بالانتقاد الموضوعى وغير الموضوعى لعصرٍ مضى وعهدٍ ولَّى، ولو أنه أعطاهم ما يريدون ما كانت هذه هى مواقفهم، وبهذه المناسبة فالثائر الحقيقى هو ذلك المدفوع من القضايا العامة والمعاناة التى قد يشعر بها غيره من أبناء وطنه، وليس بالضرورة أن تكون تلك المعاناة قد وصلت إليه، فالمعيار هنا هو «الموضوع» وليس «الشخص»، ولقد لاحظت أن جزءاً كبيراً من أحكام وآراء المتحدثين على الساحة السياسية- وما أكثرهم- أحكام تفتقر إلى الموضوعية وتُشتمُّ منها رائحة «الشخصانية» وتصفية الحسابات الذاتية، بل الغيرة الشخصية أيضاً!
رابعاً: إن المتابعة الأمينة لبعض نتائج الثورة المصرية تشير بوضوح إلى بعض المستفيدين منها والمتربحين بها، وهم مدفوعون بمصالح شخصية تطفو على السطح من حينٍ لآخر، لذلك فهم يريدون وأد الكفاءات باسم الثورة وخنق الآراء، تحت مسميات باطلة وألقاب جرى توزيعها على كل من لا يريدون، وذلك استبعاداً لهم وتخلصاً منهم، ولا نكاد نجد معياراً ثابتاً للتقييم الثورى، منذ الخامس والعشرين من يناير عام 2011 حتى الآن، ولقد رأيت كثيراً ممن يتصدرون المشهد من ذيول النظام السابق، وفى ذات الوقت فإن كثيراً من الإصلاحيين الذين كانوا فيه يدفعون ثمناً لأخطاء لم يشاركوا فيها أو ممارساتٍ فرضتها الثقافة السياسية التى سادت فى العقود الأخيرة.
خامساً: إننى أظن مخلصاً أن داء «الشخصنة» يكاد يودى بكثير من إنجازات الثورة الشعبية، ويسمح للبعض بإفساح المجال أمامه للتخلص من عناصر مفيدة للوطن، تحت مسمياتٍ شتى تفوح منها رائحة «الشخصنة» ومظاهر تصفية الحسابات والمواقف الكيدية، التى تتنافى مع مفهوم المصالحة الثورية والروح التى يجب أن تسود إذا كنا نريد أن نبنى بلداً يستحقه تاريخ الشعب المصرى العريق. لك الله يا «مصر».. فإما ديكتاتورية العناد والفساد أو ديكتاتورية الحسابات والتصفيات!
جريدة المصري اليوم
12 يناير 2012
https://www.almasryalyoum.com/news/details/53880