قلت عبارة فى حديث صحفى عام 2009 مؤداها أن هناك من يرى «أن رئيس مصر القادم ينبغى أن يحظى بموافقة أمريكية ورضاء إسرائيلى»، وكنت أشير بذلك مباشرة إلى «ملف التوريث»، الذى جعل «مصر» فى السنوات العشر الأخيرة فى حالة انبطاح دائم أمام المطالب الأمريكية ومقتضيات الأمن الإسرائيلى، وتلقف الكاتب الكبير «محمد حسنين هيكل» هذه المقولة، لأنه فهم المقصود منها بخبرته وذكائه وأحالها إلى كرة من نار، قذف بها نظام الرئيس السابق، وقامت الدنيا ولم تقعد، فأفردت صحيفة الحزب الوطنى صفحتين كاملتين هجومًا علىَّ وصل إلى حد التجريح، كما كتب رئيس تحرير صحيفة حكومية أخرى مقالاً فى الصفحة الأولى يحوى قذفًا فى حقى، على نحوٍ دفعنى إلى التقدم ببلاغٍ إلى النائب العام فى ذات اليوم، واشتدت الهجمة واعتبر النظام السابق أننى كشفت متعمدًا بعض أوراقه بينما لم يكن الأمر بالنسبة لى أكثر من توصيف دقيق للمشهد الذى كنت أراه والظروف التى تحيط به، والغريب أن بعض المرشحين المحتملين للرئاسة حاليًا عندما يُسألون عن رأيهم فى هذه العبارة لا يضعونها فى سياقها الزمنى الذى قلته فيها، بل يجدون فيها فرصة لاستعراض عضلاتهم فى ظروف استثنائية سمحت لبعضهم بأن يقول الآن ما لم يقله من قبل.
ولقد ذكرت مرارًا قبل ثورة يناير وبعدها أن الوطنية المصرية هى الأرضية الصلبة التى يجب أن يقف عليها كل من يتصدى للعمل العام أو يسعى لدور وطنى، فما بالنا بمن يتطلع إلى المنصب الأول فى البلاد؟ نعم إن «الولايات المتحدة الأمريكية» ترقب عن كثب وترصد عن قرب ما يجرى على الساحة المصرية، باعتبارها الأكبر فى الشرق الأوسط الذى يزخر بدوره بالمصالح الأمريكية المتشابكة، بدءًًا من منابع النفط واحتياطياته، وصولاً إلى «إسرائيل» وأمنها، مرورًا بنقاط التمركز الاستراتيجى للوجود الإسرائيلى فى المنطقة، أما «إسرائيل» فهى تنتظر الرئيس القادم لعله يكون زميلاً قديمًا أو رفيقًا جديدًا أو صديقًا محتملاً، وأنا أربأ بكل مرشحى الرئاسة المحتملين وبكل مصرى شريف أن يقع تحت هذه الأصناف الثلاثة! وفى ظنى أن الناخب المصرى سوف يدقق كثيرًا عند اختيار الرئيس القادم، على اعتبار أن الوطنية المصرية فى إطار المنظومة العربية هى الإفراز الطبيعى للمناخ السياسى والثقافى الذى جاءت به ثورة الخامس والعشرين من يناير، ولعل الذين يتابعون التطورات الدولية والمتغيرات الإقليمية يدركون أن الدنيا كلها تنظر إلى «مصر» باهتمام شديد، فبعد أن ارتفعت مكانتنا فى الأسابيع الأولى للثورة حتى بلغت عنان السماء وأصبح «السهم السياسى» للأمة المصرية هو الأغلى فى المنطقة، فوجئنا بعد ذلك بانخفاض سعر ذلك السهم فى البورصتين الإقليمية والدولية، لأسباب تتصل بالبيئة الضبابية التى نعيشها وحالة التخبط والتضارب التى تسود «مصر» حاليًا، ويهمنى الآن أن أسجل الملاحظات التالية:
1- إن منصب الرئاسة فى مصر ليس مغنمًا مباحًا يمكن السطو عليه فى ظروف استثنائية، بل هو مسؤولية كبرى تلزم صاحبها بأن يرتفع إلى مستواها، فليذهب المرشحون المحتملون من أبناء الدبلوماسية المصرية فى جولة بين دول حوض النيل يرسمون ملامح المستقبل ويصوغون الرؤية المقبلة لمصدر الحياة لأجيالنا التى لاتزال فى ضمير الغيب، وليتجه المرشحون المحتملون من أبناء المؤسسة العسكرية إلى دراسة مشروعات تعمير سيناء، فى إطار الأمن القومى المصرى، بعد أن ضاعت علينا أكثر من ثلاثة عقود منذ تحريرها، لم نخترقها بالإعمار ولا بالسكان واكتفينا ببعض البقاع السياحية على شاطئ البحر! وليذهب المرشحون المحتملون من أصحاب الخبرات الاقتصادية والتكنولوجية والاتصالات الدولية للبحث فى مشروع دولى مدعوم لنزع ألغام الحرب العالمية الثانية من الصحراء الغربية، هذه أمثلة فقط لما يمكن أن يقدمه المرشحون لقيادة الوطن.
2- إن مصر قد فقدت الكثير بشهادة الجميع، لأن ثلاثين عامًا مضت دون حروب أو ثورات، لكن لم نستثمر ذلك فى إصلاح التعليم وتطبيق التدريب ودعم الرعاية الصحية وفتح الملفات المهمة بذكاء وحرص، مثل موضوع «مياه النيل» وتعمير سيناء» و«إنقاذ سكان العشوائيات» وغيرها من القضايا المؤثرة فى المصلحة العليا للبلاد وأمنها القومى، لذلك فإن المرحلة المقبلة يجب أن تكون تعويضًا عن سنوات الهدر للطاقات والإمكانات والبشر.
3- إننى أظن مخلصًا أن الجدل الدائر على الساحة الوطنية حول الرئيس القادم هو لغو لا مبرر له، لأن من يرد أن يتقدم للمسؤولية الكبرى فإن عليه أن يتقدم أيضًا بأوراق اعتماده لدى شعبه عملاً لا قولاً، رصيدًا لا دعاية، فى إطار أفكار غير تقليدية وبرامج محددة بإطار زمنى، مع رؤية شاملة تنقذ هذا الوطن الغالى من معاناة طويلة وظروف صعبة ومستقبل لم تتحدد ملامحه بعد.
.. هذه بعض الملاحظات أسجلها حول رئيس مصر القادم وعلاقته بالقوى الإقليمية والدولية، وتسبقهما مباركة شعبية، لأنه سوف يتصدى للأمانة الكبرى ويتحمل الأعباء الثقال التى تنوء بحملها الجبال!
جريدة المصري اليوم
10 نوفمبر 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/211358