ما التقى مصريان، إلا وكان السؤال المطروح إلى أين نحن ذاهبون؟ حالة من القلق تسيطر على الناس، مع مسحة من الخوف على المستقبل، وإحساس تلقائى بأن هناك من سرقوا الثورة وسطوا على الإنجاز الباهر للشباب الطاهر، الذى اعتصم على امتداد ثمانية عشر يومًا، هى الفاصلة فى تاريخ مصر الحديث، والتى أظهرت من «مصر» أفضل ما فيها، ثم دارت الدائرة بعد ذلك لكى تفرز أيضًا أقبح ما فيها! والكل ينظر الآن إلى عملية هدم كل ما هو قائم دون تفكير فى بناء ما يجب أن يكون، إن «مقاول الهدد» يمارس دوره بنشاط، ولكن «مقاول البناء» لم يحضر بعد!
ولست أريد أن أنشر مناخ الإحباط واليأس، فأنا ممن يعتقدون أن «ثورة يناير» كانت ضرورة تاريخية لمواجهة الاستبداد والفساد، الذى عانى منه جيلى، بل وشارك فيه واكتوى به أيضًا، ولكن المؤسف أنه جرى خلط واضح بين «مصر الثورة»، و«مصر الدولة»، وتوهم البعض أن «مصر» كلها قد ولدت فى الخامس والعشرين من يناير 2011، بينما الذى ولد هذا اليوم هو روح جديدة أسقطت حاجز الخوف، ربما لأول مرة فى تاريخ مصر الحديث، حيث بعثت فينا شعوراً جديداً لا ننكره، ولكن هناك محاولة لتنحية أفضل العقول وأغنى الخبرات بالإقصاء السياسى والنفى الاجتماعى وفقًا للتعميم الأعمى والفهم المغلوط للحقائق دون سند من القانون أو المنطق، فالكل مذنبون ولا نذكر لأحد فضلاً ولا نعترف بأى دور! وعندما أقرأ كتابات سياسية لرجالٍ من طراز «علاء الأسوانى» و«حمدى قنديل» و«محمد أبوالغار»، فإننى أنفعل معها وأطرب لها، حيث أرى فيها قدرًا كبيرًا من الموضوعية وترفعًا عن السباب ورغبة حقيقية فى الإصلاح الثورى، لكن فى المقابل هناك عشرات من الكتابات لا تستحق النشر إذ تتصف بضحالة الفكر ونقص الثقافة مع روح كيدية واضحة، ويحضرنى الآن مقال صغير لكاتب شاب ينتمى إلى «الثوار الجدد» ينتقد فيه (بيت العائلة المصرية) الذى يترأسه الإمام الأكبر د. أحمد الطيب وقداسة البابا «شنودة الثالث»، ولا بأس من ذلك فحرية التعبير مكفولة للجميع، ولكن ذلك الكاتب الشاب ينزلق فجأة إلى مستنقع السباب والطعن فى الآخرين بكلام مرسل وأسلوب متهرئ، بل ومعلومات خاطئة تمامًا، ناهيك أيضًا عما تنشره بعض المواقع الإلكترونية من آراء ظالمة وتحليلات ناقصة مع استخدام لغة هابطة تدل على نقص المعرفة وغياب الرؤية، بل وسوء الخلق أيضًا، إن مصر بلد فريد من نوعه لا هو بالكبير ولا بالصغير، لا هو بالغنى ولا بالفقير، سخت عليه الجغرافيا وأغدق عليه التاريخ وأضاف إليه العنصر البشرى المتميز لذلك فإن حالة الفوضى التى نمر بها وبيئة التردى التى نعيشها لا تعكس أبدًا ما نملك من مقومات، فمصر تستحق أفضل بكثير مما هى عليه، والآن أستأذن فى طرح ملاحظاتٍ ثلاث:
1- إن التقييم الموضوعى للماضى هو المقدمة الطبيعية لتفسير الحاضر وفهم المستقبل، أما خلط الأوراق و«الشخصنة» الدائمة وتشويه الأفكار وتزييف المشاعر فإنها كلها أمور لا تسمح بالتوصيف الدقيق لما عشناه وأدى إلى تجريف «مصر» من إمكاناتها الطبيعية والبشرية وتراجع دورها الإقليمى وأحدث خرابًا حقيقيًا فى النفوس وشحن الناس بقدر كبير من الكراهية والضغينة والبغضاء، دعونا ننظر نظرة عادلة تضع أيدينا على مواطن الفساد ومصادر الاستبداد.
2- إننا نظن - والانتخابات البرلمانية على الأبواب - أنه لابد من الالتقاء عند نقطة مشتركة تتفق حولها كل القوى السياسية بدلاً من اللغة الزاعقة والعبارات الصاخبة كتلك التى استعملها مؤخرًا عضو بارز فى جماعة سياسية كبيرة وهو يحاكى أسلوب بعض قيادات الحزب الوطنى غرورًا وعجرفة واستبدادًا، إننا جميعًا ننتمى إلى وطن واحد لا يحتكر أحد فيه الوطنية ولا ينفرد أحد بالإخلاص.
3- إن التركيز على المستقبل يجب أن يكون هو الشغل الشاغل للمصريين جميعًا ولنترك الماضى لسلطات الأمن وجهات القضاء بحيث تنصهر جهودنا فى البناء الجاد وصياغة رؤية عصرية للدولة المصرية الحديثة، مع الإيمان المطلق بقضايا التغيير والإصلاح تكريمًا للثورة واحترامًا لدماء الشهداء.
إنها «مصر» التى يجب أن نعرف إلى أين تتجه الآن ومن العجيب أننى وجهت هذا السؤال منذ عامين إلى الرئيس السابق عبر شاشة التليفزيون أثناء حوار مع الإعلامى «معتز الدمرداش»، حيث قلت للرئيس «مبارك» على الهواء مباشرةً «إن الفلسطينيين يتحدثون عن خارطة طريق بينما نحن المصريين لا نملك خارطة للمستقبل وتلك مسؤولية رئيس الدولة فى أن يوضح معالم المستقبل بشفافية وصراحة!»، وكنت أشير من طرف خفى إلى المخاوف المتزايدة من «ملف التوريث» حينذاك والغريب أن الأمر قد مر بسلام لأنه لم يكن هناك من يقرأون وإذا قرأوا لا يهتمون، وقد حان الوقت الآن لكى نقرأ ونفكر لنبنى وطنًا هو أعظم الأوطان.
جريدة المصري اليوم
3 نوفمبر 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/52844