عاش العرب على امتداد العقود الستة الأخيرة فى ظل خطاب سياسى، تعودت عليه الأذن العربية واستقبلته الشعوب بالقبول الصامت، فأصبح جزءًا من تكوينها الفكرى وبنائها العقلى، خطاب يقوم على تمجيد الحاكم واعتباره حالة خاصة تجرى الإشادة بها صباح مساء، وذاتًا عليا لا تمس، تتصدر أخباره نشرات الإذاعة والتليفزيون، وهى المانشيت الأول فى صحف النظام حتى أصبح الخطاب الإعلامى جزءًا لا يتجزأ من الخطاب السياسى الشامل، الذى يلف المنطقة بأسرها ويحتوى كل المؤسسات البرلمانية والهيئات الحزبية، ولقد خرج عن هذا السياق، بل غرد بعيدًا عن السرب نظام «القذافى» فى «ليبيا»، فهو الذى سيطر على البلاد والعباد أكثر من أربعين عامًا اختفى خلالها الشعب الليبى، وظهرت التسابيح التى تمجد القائد العظيم صاحب المواقف الغريبة والسياسات المضطربة والاختراعات الشاذة، فحتى اسم الدولة وعلمها كانا نموذجين للاضطراب العقلى، كما أن تمجيد القائد كان يفوق كثيرًا أقرانه فى العالم العربى بشطحاته الغريبة وتصرفاته غير المتوقعة، ولعل ثورة الشعب الليبى، فى ظنى على الأقل، هى أكثر الثورات العربية استحقاقًا وضرورة بعد أن ظن الكثيرون أن حكم «القذافى» وأسرته هو قدر «ليبيا» ومصيرها الأبدى، وعندما بدأ «المجلس الانتقالى للثورة الليبية» يكشف عن أسماء أعضائه شعرت بالأمل والارتياح لوجود الدكتور «محمود جبريل» بين قياداته العليا، فالرجل خريج كلية «الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة» اقترن بعد تخرجه بزميلة دراسته الفاضلة الأستاذة الدكتورة «سلوى شعراوى جمعة»، وهى أستاذ ورئيس قسم فى هذه الكلية حاليًا، وكانت مرشحة لأن تكون مديرة للمنظمة العربية للتنمية الإدارية، كما أنها ابنة السيد «شعراوى جمعة»، الذى كان وزير داخلية «مصر»، وأحد أعمدة الحقبة الناصرية، والدكتور «محمود جبريل» هو والد ابنتيها حيث ترك «مصر» منذ سنوات وحصل على الدكتوراة من إحدى الجامعات الأمريكية، وما زلت أتذكر عندما أطل علينا فى إحدى القنوات التليفزيونية العربية منذ عدة أعوام متحدثًا فى برنامج شهير بهدوئه المعتاد وموضوعيته الواضحة، وإليه يرجع فضل كبير فى إرساء دعائم «الثورة الليبية»، خصوصًا على المستوى الدولى من خلال لقاءاته المتعددة مع قادة الدول الأوروبية، فضلاً عن المحافل الدولية ودوره فيها، ولعلى أظن مخلصًا أن الله قد أراد بليبيا خيرًا بعد عقود من الغيبوبة والانفلات، فضلاً عن الانحراف السياسى والاقتصادى والثقافى، كما أن الجرائم التى جرى ارتكابها ضد حقوق الإنسان من تصفية المعارضين فى الخارج إلى خطف السياسيين الليبيين ونقلهم إلى حيث المصير المأساوى بدءًا من «عمر المحيشى» وصولاً إلى «منصور الكخيا»، مرورًا بالحوادث الغامضة مثلما انتهى إليه أمر «إبراهيم البشارى» أيضًا أما عن اختفاء الإمام «موسى الصدر» فحدث ولا حرج، فالنهاية المبهمة فوق الأرض الليبية لتلك الشخصية الأسطورية لا تزال قضية لبنانية متوهجة وهاجسًا شيعيًا لا يتوقف، وما زلت أتذكر عندما هاتفت دولة الرئيس «نبيه برى»، رئيس مجلس النواب اللبنانى، لكى يسمح لأعضاء «البرلمان العربى» من اللبنانيين بالعودة إلى دورهم فيه بعد انقطاعهم عنه نتيجة تولى سيدة ليبية رئاسة ذلك البرلمان، وقد قال لى السيد «نبيه برى» يومها (إن الموضوع أكبر مما تتصور فالاختفاء الغامض للإمام «الصدر» لن يغيب عن ضميرنا، كما أن دماءه لن تضيع هدرًا)، واعتذر الزعيم اللبنانى عن إيفاده ممثلى البرلمان اللبنانى إلى البرلمان العربى فى ظل وجود زعامة ليبية. إن عام 2011 هو عام المعجزات الثورية فمن منا كان يتصور منذ عدة شهور أن تتساقط الأنظمة العربية البالية التى أصابتها الشيخوخة فترهلت أوصالها وهرمت عقولها لكى تختفى بهذه السرعة؟! بل إن البعض يرى أن هناك تدخلاً خارجيًا، بينما أرى فيها تدخلاً إلهيًا، فالقمة العربية المقبلة سوف تكون أقرب إلى «قمة التعارف» بين قيادات جديدة وزعامات مختلفة تلتقى لأول مرة، فالتاريخ العربى يعيد صياغة نفسه ويلقن الجميع دروسًا فى التغيير، وفقًا لسنة الحياة وروح التجديد، دعنا نقل مرة أخرى: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ».
جريدة المصري اليوم
8 سبتمبر 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/210626