شاهدت على شاشات التلفزة مئات الألوف من المتظاهرين فى «بنى غازى» ضد «القذافى» وأسرته ونظامه، كما استمعت إلى الهتافات المدوية يوم دخول الثوار إلى العاصمة الليبية «طرابلس»، وتساءلت أين كان الشعب الليبى فى العقود الأربعة الأخيرة؟ ووجدت الإجابة حاضرة وهى أن بطش الحكَّام وإعمال آلة القمع والقهر واستبداد السلطة وطغيان الحاكم تؤدى إلى تغييب الشعوب، فقد اقتصرت مشاركة الشعب الليبى فى العقود الأخيرة على احتفالات «القذافى» وانتصاراته الوهمية وإنجازاته الشكلية، بدءًا من تفجير الطائرات ونسف المحال، وصولاً إلى دعم ثوار «إيرلندا» ومحاولة تلغيم «قناة السويس» ثم «أسطورة النهر العظيم»، وفى زيارة أخيرة للعاصمة الليبية منذ عامين لحضور جلسات البرلمان العربى أدهشتنى أوضاع البلاد والعباد هناك، فمنذ النزول إلى المطار تلاحظ فقر البنية الأساسية وغياب مظاهر الثراء والتقدم فى بلد يملك ثروة نفطية هائلة، بددها «النظام الليبى» على مغامراته وتحالفاته وصراعاته، ومازلت أتذكر زيارة إلى «ليبيا» للقاء «القذافى»، مرافقًا لوفد صغير من المخابرات العامة المصرية عام 1991 وكيف استقبلنا «القائد» فى خيمته، وأشهد الله أننى خرجت من اللقاء بمزيج من الدهشة والسخرية والتوتر، وكنت فى ذلك اليوم بصحبة السيد «محمد عبدالسلام المحجوب»، رجل الاستخبارات الوطنى المتخصص فى الشؤون العربية الذى أصبح محافظًا ثم وزيرًا بعد ذلك، وفى نهاية اللقاء قال «القذافى»: إن «مصطفى الفقى» لم يحصل على (خاتم الإرهاب) لدى الدول الأخرى، فلابد أن يأخذ صورة معى حتى يتم تصنيفه مثلنا! ومازلت أتذكر التصرفات المسرحية للقائد الليبى فى مؤتمرات «القمة العربية»
وعندما حضرت قمة الدول العربية والأوروبية بالقاهرة عام 2000 وكنت مشاركًا فى الإعداد لتلك القمة بحكم موقعى كمساعد لوزير الخارجية للشؤون العربية والشرق الأوسط، قال لى القائد الليبى فى نهاية الجلسة الختامية: «إن «سيف الإسلام» يتحدث عنك كثيرًا ويتذكر لقاءاتكم عندما كان يدرس فى العاصمة النمساوية «فيينا». وواقع الأمر أن ابن القائد الليبى قد عاش سنواتٍ تزامنت مع عملى سفيرًا فى «فيينا» وكان يطلب لقائى من خلال سفير بلاده الصديق «سعيد عبدالعاطى»، حيث كان محور الحديث دائمًا أمرين يريد أن يستمع عنهما «سيف الإسلام» كل مرة، وهما «شخصية الرئيس الراحل جمال عبدالناصر» ثم «التجربة الهندية» لخدمتى الدبلوماسية هناك، وكان يصطحب معه «نمرين» أودعهما حديقة حيوان «فيينا» وهما من نوع نادر يزورهما فى عطلة كل أسبوع، وعندما تأخرت السلطات النمساوية فى تجديد الإقامة له، عاقبها الزعيم الليبى بإيقاف أعمال الشركات النمساوية فى «ليبيا»، وفى اليوم التالى كان وزير داخلية «النمسا» يسعى بنفسه لتسليم «سيف الإسلام» وثيقة تجديد الإقامة، خوفًا من التصعيد مع «القذافى» وردود فعله غير المتوقعة. ومنذ عامين زار «سيف الإسلام» «القاهرة» واتصل بى لحضور عشاء موسع معه بحضور عدد من السياسيين والإعلاميين المصريين، وانتحى بى معظم الأمسية يسألنى عن مشروع التوريث فى «مصر»، وقد وافقنى يومها عندما قلت له إننى أشعر فى قرارة أعماقى بأن المشروع لن يتم وأن مؤهلات «الوريث» عندنا لا ترقى لخبرة الحكم، فضلاً عن الرفض الشعبى العام لذلك، وبدأ هو يشرح لى الفروق بين الوضع فى «مصر» والوضع فى بلاده، وقد دعانى ليلتها بإلحاح لزيارة «ليبيا»، لأنه يريد أن يستمع إلى مزيد من التحليل السياسى للأوضاع فى البلاد العربية، ثم جاءنى اتصال منه بعد ذلك بعدة شهور يدعونى مرة أخرى للقائه فى «ليبيا»، وبعدها بأسابيع قليلة طلب أن أكون ضيفًا عليه فى رحلة بحرية على ظهر «اليخت» الذى يملكه مع مجموعة من الأصدقاء العرب، متجولين عبر موانى البحر المتوسط، واعتذرت عن هذه الدعوات جميعًا، لأننى لم أكن مستريحًا لطبيعة السلطة وأسلوب الحكم والسياستين الداخلية والخارجية للقيادة الليبية، وعندما رأيت وجه «سيف الإسلام» على شاشات التلفزة يتوعد الثوار ويتحدث بتكبر وتجبر عن تصفية التمرد بالقوة أدركت أننى أمام شخص آخر غير الذى كنت أعرفه من قبل عندما كان يتحدث عن دعم مشروعات الإغاثة وإطلاق سراح الرهائن وإقامة جسور معتدلة بين بلاده والعالم الخارجى، بينما «الشعب الليبى» غائب عن المسرح فى كل ذلك، وها هو يعود اليوم ثائرًا مبهراً، فعندما سقط النظامان «التونسى» و«المصرى» أصبح «القذافى» مهيض الجناح، وكانت كلمة الشعب الليبى هى العليا لأول مرة منذ أكثر من أربعين عامًا.
جريدة المصري اليوم
1 سبتمبر 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/210462