بارك الله أرض «مصر» الطيبة بآل البيت الذين لاذوا بالكنانة فى القرنين الأول والثانى الهجرى، كما عرفت رحلة «العائلة المقدسة»، وهذا الثراء الروحى يعطى هذا البلد مذاقاً خاصاً، ومازلت أعيش مع كلمات «توفيق الحكيم» عن الطاهرة «السيدة زينب» (أم العجائز)، ومع «نجيب محفوظ» فى ثنايا رواياته الخالدة حين يتحدث عن السيدة «نفيسة» صاحبة الكرامات وملاذ ذوى الحاجات، لذلك ظل «الأزهر الشريف» بؤرة الاهتمام ومنار الأمة والذاكرة الوطنية للشعب المصرى دائماً، هذه خواطر رمضانية ألحَّت علىّ مع شهر الصيام وهى تدور حول بعض المشاهد التى تتصل بشيوخ الأزهر الكبار، يبدأ بعضها منذ كنت أعمل مع الرئيس السابق - وهو العمل الذى تركته منذ نحو عشرين عاماً - إذ لم يكن النظام فى ثمانينيات القرن الماضى يوحى بما سمعناه وعرفناه عن حجم الفساد ودرجة الاستبداد، فقد كان الرئيس السابق مشغولاً وقتها باستكمال البنية الأساسية والتحكيم حول «طابا» والمفاوضات مع «صندوق النقد» و«البنك الدولى» والسعى لتحسين علاقات «مصر» العربية، وذات صباح مبكر كنت أعرض على الرئيس السابق المعلومات الواردة من الداخل والخارج، وعنّ لى خاطر مع بدايات موجة العنف الدينى أن أقول له: لماذا لا تفكر فى أن تضع على قمة الأزهر الشريف واحداً من الرموز ذات الشعبية فى الشارع الإسلامى؟ من أمثال الشيوخ «الشعراوى» و«الغزالى» و«القرضاوى» و«سيد سابق»، وكانوا جميعاً أحياء وقتها؟ فرد الرئيس السابق قائلاً: لقد عرض «د.فؤاد محيى الدين» على الشيخ «الشعراوى» إمامة الأزهر الشريف بعد رحيل الشيخ «عبدالرحمن بيصار»، شيخ الأزهر الأسبق - الذى كان أول مدير للمركز الإسلامى فى واشنطن عندما افتتحه الرئيس الأمريكى «إيزنهاور» فى نهاية خمسينيات القرن الماضى - ولكن الشيخ «الشعرواى» اعتذر عن عدم قبول هذا المنصب الرفيع، وأثارتنى هذه المعلومة فاتصلت يومها بالشيخ «محمود عاشور» الذى أصبح فيما بعد وكيلاً للأزهر الشريف، وهو صديق عزيز من أيام الشباب، وحكيت له حوارى مع الرئيس السابق حول ما ذكره عن رفض الشيخ «الشعراوى» لمشيخة الأزهر، فقال الشيخ «محمود عاشور» سأرد عليك غداً بالخبر اليقين، حيث التقى بعد المكالمة بالشيخ «الشعراوى» وقص عليه ما ذكرته فرد الشيخ الراحل «والله ما عُرضت علىَّ أبداً ولو حدث ذلك ما ترددت فى القبول لأن مشيخة الإسلام شرف يحمله من يجلس على قمة الأزهر الشريف»، وقال تحديداً «إن من أبلغ الرئيس بذلك هو كذاب أشر»، وقد كنت أعلم شخصياً الود المفقود بين رئيس الوزراء الأسبق «د.فؤاد محيى الدين» والإمام «الشعراوى». وهناك قصة أخرى مع الإمام الراحل «جاد الحق على جاد الحق»، الذى كان شيخاً للأزهر، يتميز بشدة المراس والصلابة فى الحق، حيث أوفدنى الرئيس السابق إليه لأنقل له مباشرة انزعاج مؤسسة الرئاسة من بيان يزمع «شيخ الأزهر» إصداره منتقداً فيه سيطرة الفن الهابط على الإعلام المرئى والمسموع فى «مصر»، وكان ذلك عام 1989 تقريباً - لأننى أكتب هنا من الذاكرة - وقد استقبلنى الإمام الأكبر فى مكتبه بحفاوة ومحبة لأن علاقتى به قديمة، وظل يحكى لى بعض الطرائف العربية والإسلامية فى ود ظاهر، وقال لى إن الرئيس أخبره هاتفياً بسبب إيفادى إليه، وبعد أن جلست معه ساعة أو بعض ساعة وقبل مغادرتى حسبت أن الأمر قد أصبح محسوماً وأن «الإمام الأكبر» قد استجاب لطلب الرئيس السابق بعدم نشر ذلك البيان الأزهرى فى ذلك الوقت، وعند باب مكتبه قلت له «يا فضيلة الإمام هل أبلغ الرئيس باستجابتكم لطلبه؟» فقال لى بل قل له «إننا نطيع أولى الأمر إلا فيما نراه متسقاً مع روح الإسلام وتعاليمه وآدابه، وأن البيان سوف يصدر غداً»، وبالفعل كان لذلك الشيخ - رحمه الله - ما أراد محافظاً على استقلالية الأزهر ومكانته الرفيعة.
أما القصة الثالثة والأخيرة فهى تلك التى تتصل بعلاقتى بالإمام الراحل «محمد سيد طنطاوى»، الذى كان معروفاً بالبساطة والتواضع وبالعصبية أيضاً، حيث تقدمت متطوعاً بالشهادة أمام المحكمة عندما كان صحفى كبير معرضاً للحبس ببلاغ من الإمام الأكبر، لما رآه تطاولاً على مقامه الرفيع ومؤسسته الشريفة، فذكرت أمام القاضى الذى لن أنسى ثقافته وحكمته أن فضيلة الدكتور «أحمد الطيب» - الذى كان رئيساً لجامعة الأزهر حينذاك - قد دعانى لمحاضرة عامة شرفنى بحضورها وإدارتها فى قاعة الإمام «محمد عبده»، حيث كانت مشاعر الشباب الأزهرى معبأة للغاية ضد زيارةٍ يجرى الإعداد لها يقوم فيها شيخ الأزهر «طنطاوى» بلقاء بابا الفاتيكان «بندكدت الثالث عشر» فى مقره، وهو المعروف بتصريحاته ومواقفه غير الودية تجاه الإسلام والمسلمين، ولقد انزعج الشيخ الراحل من شهادتى أمام المحكمة على غير ما يريد رغم أنه هو الذى صلى الجنازة على والدتى عام 1997 كما صلاها أيضاً على جثمان والدى عام 2000 رحم الله الجميع، وعندما هاجم رجل دين لبنانى بعد ذلك بشهور الشيخ «طنطاوى» فى برنامج كنت مشاركاً فيه جرى بثه من قناة «الجزيرة»، تصديت فى ضراوة للدفاع عن الشيخ «طنطاوى» احتراماً لمنصبه وتقديراً للأزهر الشريف، ولقد تأثر الشيخ الراحل بموقفى ذلك الذى لم يكن يتوقعه وكان ذلك قبل رحيله بأسابيع قليلة.
ليست هذه ثرثرة صائم بقدر ما هى رسالة عرفان للمؤسسة الدينية التى التف حولها المصريون عبر مراحل التاريخ المختلفة.
جريدة المصري اليوم
25 أغسطس 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/210253