لا أظن أن مؤسسة دينية كبرى قد أثرت فى الحياة الفكرية والثقافية بل السياسية مثلما هو دور «الأزهر الشريف» فى «مصر»، وذلك على امتداد ما يزيد على عشرة قرون، ولقد عرف دور «الأزهر الشريف» موجاتٍٍ من الصعود والهبوط وفقاً لأحوال «مصر» وظروفها المختلفة، ولكنه ظل على الدوام ملاذاً للشعب المصرى المقهور عبر تاريخه الطويل، ولقد شعرت بعراقة الأزهر- الجامع والجامعة- عندما زرت مدينة «أكسفورد» البريطانية لأول مرة عام 1971واستمعت إلى أستاذٍ بريطانى مرموق يقول إن تاريخ جامعته قد استلهم تقسيم كلياتها من نظام الأروقة فى «الأزهر الشريف»! حيث كانت هناك أروقة تخضع للتقسيم الجغرافى مثل «رواق المغاربة» أو «رواق الشوام»، وأخرى تخضع للتقسيم المذهبى مثل «رواق المالكية» أو «رواق الحنابلة»، والواقع أن «الأزهر الشريف» ظل علامة مضيئة فى تكوين الشخصية المصرية منذ بناه الفاطميون لكى يكون مركزاً للمذهب الشيعى، ولكن بسقوط دولتهم أصبح «الأزهر الشريف» هو أكبر مركز سنى فى العالم الإسلامى المعاصر، وقد جاء على الأزهر حينٌ من الدهر كان ملء السمع والبصر، كما عرف أيضاً لحظات من الانزواء والانكسار فى بعض العصور المظلمة من تاريخ «مصر» الإسلامى، ولقد تميز الأزهر عن غيره من المؤسسات الدينية الكبرى بعدد من السمات انفرد بها وارتبطت بمكانته الدولية والإقليمية، ولعلنا نذكر منها:
أولاً: لا ينكر أى تحليل نزيه أن «الأزهر الشريف» قد ظل حافظاً لعلوم القرآن ودراسات الشريعة ومذاهب الفقه على امتداد تاريخه كله، واتسمت مسيرته بروح التجديد فى لحظات فارقة من تاريخ الوطن المصرى، فهو أزهر الأئمة الكبار بدءاً من «الدمنهورى» مروراً بـ«الخراشى» وصولاً إلى «حسن العطار» و«رفاعة الطهطاوى» والإمام المجدِّد «محمد عبده» رائد الحركة الحديثة فى الإصلاح الدينى والاجتماعى، فضلاً عن الأسماء التى وفدت على ساحته بعد ذلك من أمثال «المراغى» و«آل عبدالرازق» و«عبدالمجيد سليم» و«الخضر حسين»- التونسى الجنسية- تعبيراً عن أممية دور الأزهر، وإسقاطاً للتفرقة بين شيوخه وأوطانهم الأصلية.
ثانياً: إن انفتاح «الأزهر الشريف» على المؤسسات الدينية الأخرى عموماً والمؤسسات الإسلامية خصوصاً يبدو طرازاً فريداً، وهنا نتذكر اسم شيخه العلاّمة «محمود شلتوت» داعية التقريب بين «الشيعة الاثنى عشرية» و«أهل السنة»، الذى أباح التعبد فى أروقته ذات التاريخ المزدهر لكل من الشيعة و«الزيدية»، كما أصبح «الفقه الجعفرى» مادة للدراسة جنباً إلى جنب مع المذاهب الأربعة الكبرى لأهل السنة، وبذلك أصبح «الأزهر الشريف» هو المركز الإسلامى الوحيد الذى لا يعرف التفرقة بين أتباع الديانات ومعتنقى المذاهب، ويتعامل مع القيم الروحية للجميع بجدية واحترام، كما انفتح «الأزهر الشريف» على فلسفات الغرب وعلومه، ولقد شعرت بذلك وأنا أحضر الاجتماعات التى دعا إليها إمامه الحالى الصوفى الزاهد الدكتور «أحمد الطيب» وأنا أراه أستاذاً للفلسفة الإسلامية درس فى الغرب الفرنسى ويجلس على يمينه أستاذ جليل آخر للفلسفة الإسلامية هو «د.محمود زقزوق» درس فى الغرب الألمانى، ولا شك أن التزاوج بين الثقافات والاطلاع على الحضارات هو أكثر ما يحتاجه عالم الدين العصرى بعيداً عن المحلية والانغلاق تحت دعاوى الخصوصية والشرنقة الذاتية.
ثالثاً: قد يقول قائل إن جامعة «الزيتونة» التونسية أقدم وجوداً من «الأزهر الشريف»، ويجادل آخر فى أهمية «القيروان» ودوره الإسلامى فى الشمال الأفريقى، ولكن الأزهر يتميز عن سواه بالاستمرارية والتواصل، إذ يمكن أن يكون قد عرف مراحل من الضعف، ولكنه لم يعرف أبداً فترات من الانقطاع، وهذا التواصل الذى يميز «الأزهر الشريف» يجعله بحق جزءاً من البوتقة المصرية التى انصهرت فيها رموز تلك الشخصية الوطنية التى تبدأ بـ«الأزهر الشريف» ومزارات أهل البيت ولا تنتهى بالكنيسة الأرثوذكسية الوطنية ورحلة العائلة المقدسة، ولقد استمعت إلى وزير خارجية «إيران» مخاطباً الوفد المصرى الزائر مؤخرًا وهو يردد مقولتى الشهيرة التى طرحتها منذ سنوات (إن الشعب المصرى سنى المذهب شيعى الهوى)، كما قرأت أن الزعيم الإيرانى «رافسنجانى» قد قال فى حديث مع الأستاذ «هيكل» (إن أغلى أمانيه أن يتمشى فى صحن الأزهر)، وقد حضرت محاضرة للسيد «محمد خاتمى» الرئيس السابق للجمهورية الإيرانية، وكان ذلك فى قاعة الإمام «محمد عبده» بالأزهر الشريف، حيث قال (إننا نتطلع إلى أن يقود الأزهر العالم الإسلامى- سنة وشيعة- احتراماً لمكانته وتقديراً لسماحته واعترافاً بوسطيته)
.. إن خلاصة ما أريد أن أقوله هو أن الأزهر مؤسسة دينية لها مكانة دولية رفيعة، ولن أنسى عندما طلبت منى وزيرة خارجية «النمسا»، وأنا سفير لبلادى فى «فيينا»، أن يشرف «الأزهر الشريف» على أكاديمية إسلامية كبرى تمولها وتتحمل نفقاتها كاملة الدولة النمساوية، ولن ننسى أبداً زيارة ولى عهد «بريطانيا» الأمير «تشارلز» وخطبته الشهيرة فى صحن الأزهر استكمالاً لخطبته الأولى فى جامعة «أكسفورد» عام 1993، وكلاهما يدور حول عظمة الإسلام ودور «الأزهر الشريف»، الذى بدأ يعود إلى الساحة الوطنية والدينية فى أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير، وكان من نتائج ذلك وثيقته الرائعة التى صدرت مؤخراً.. فمرحباً بعودة «الأزهر الشريف» إلى أحضان الوطن والعود أحمد!
جريدة المصري اليوم
18 أغسطس 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/210064