المعلم: لقد استعرت عنوان هذا الحوار من اسم كتابٍ لعالم الرياضيات المفكر اليسارى الراحل الدكتور «عبدالعظيم أنيس»، عندما بعث برسائل الحب والحزن والثورة بعد رحيل زوجته الشابة عن عالمنا حين عقرها كلب ضال فى أحد ممرات مطار «القاهرة» فى مشهدٍ إنسانى مروع، حيث نعاها الزوج المكلوم فى كتابٍ عبقرى صغير مازالت كلماته ترن فى أذنى منذ سبعينيات القرن الماضى حتى اليوم، وها أنا يا بنى أقول لك إن الثورة ليست فقط عملاً شعبياً أو إجراءً سياسياً، ولكنها أيضاً تعبير عن مخزون العواطف والمشاعر بل والإحباطات ومظاهر القهر وممارسات القمع، لذلك فعندما تحدث فإنها تستخلص معدن الشعب وتبين جوهره الحقيقى بلا رتوشٍ أو تجميل.
الطالب: ماذا تعنى بهذا يا أستاذى؟ هل تريد أن تقول إننا قمنا بثورة مجردة من المشاعر والأحاسيس؟ أم أننا لا نملك من العاطفة الوطنية ما يجعلنا ندرك مضمون ما تقول. إن شحنات الغضب لدينا والشعور الدائم بالتهميش والاحتقان المستمر دون ردود أفعالٍ رشيدة من النظام السابق تحترم آراءنا وتستمع لما نقول، هى التى دفعتنا إلى ما قمنا به. إنها ليست فقط البطالة وشيوع الفقر والتفاوت الطبقى الفاضح، ولكنها أيضاً استبداد الحكم وفساد الإدارة.
المعلم: إننا أيها الفتى نريد لكم أن تعيشوا حياة أفضل منا وأن تعوضوا ما فاتنا، خصوصاً فى ميادين «التعليم» و«البحث العلمى» و«الرعاية الصحية» حتى لا تواجهوا ما عانيناه عبر السنين، ثم إننا نؤمن بأن كل جيلٍ أفضل من سابقه وإلا ما تطورت الحياة إلى الأفضل، بل إننى أريد أن أقول لك إن تفوق جيلٍ معين يعطى الفضل للجيل الذى سبقه، فهناك جيل بنى وآخر جنى، فإذا كنتم تشعرون بشىءٍ من التميز فإن قدراً كبيراً من ذلك يعود إلى الجيل المعلم، فأنتم لستم نبتاً شيطانياً ولكنكم امتداد لنا، فنحن نؤمن بتواصل الأجيال وتدفق ماء الحياة عبر دورة الزمان.
الطالب: لقد فاتنا الكثير أيها المعلم، فمصر تستحق أفضل بكثيرٍ مما كانت عليه أو ما هى فيه، ولقد جاء الوقت الذى يجب أن تدركوا معه أننا نحاول تصحيح أخطاءٍ سبقت وترميم الماضى من أساسه، هل يعقل أن بلداً مثل «مصر» بشواطئه الطويلة ونيله العظيم وتربته الخصبة ومناخه المعتدل وموارده البشرية المتميزة ومصادره الطبيعية الوفيرة، بدءاً من قناة السويس والبترول حتى مناجم الفوسفات والذهب، يمكن أن يعيش أكثر من أربعين فى المائة من سكانه تحت خط الفقر؟! إن النهب المنتظم والتجريف المستمر هو الذى أدى بنا إلى ما آلت إليه الأمور، كما أن العنصر البشرى الذى نفاخر به لم يتم توظيفه على النحو الأمثل، فلم يكن الرجل المناسب فى مكانه ولم نحترم الكفاءات ولا المواهب والخبرات.
المعلم: حسناً جاء توصيفك للماضى، ولكن ماذا عن المستقبل، هل وضعنا تصوراً متكاملاً لعقدين قادمين؟ هل فكرنا فى الميزة النسبية للوطن المصرى؟ هل حاولنا أن نقلد «الهند» فى مطلع خمسينيات القرن الماضى، عندما أنشأت مجلساً أعلى للتخطيط، يقوم على أسسٍ علمية سليمة، وليس مجرد هياكل وظيفية شكلية؟ هل تصالحت القوى الاجتماعية والجماعات السياسية بعد الثورة؟ إننى أقول لك إن الصورة تبدو لى قاتمة، فالخلافات تشتد والمخاوف تتزايد وعوامل الاحتقان وأسباب الفتنة مازالت تطل برأسها الكئيب فى سماء الوطن، إننا نريد أن تكون دماء شهداء الثورة وقوداً حقيقياً يحرك قاطرة المستقبل ويسمح لأرواحهم بأن تستريح فى أعلى العليين.
الطالب: إن عينى تدمعان وأنا أتذكر رفاقى من شهداء الميدان، معترفاً لك بأنه ليس كل قتيلٍ فى ثورتنا شهيداً، فهناك من سقطوا من عناصر «البلطجة» والمخربين وهاربى السجون، ولكن تبقى تلك الدماء الزكية للثوار الحقيقيين، التى تتحول الآن إلى زيتٍ مقدس يشعل فتيل مصابيح الغد الأفضل الذى نسعى إليه جميعاً.
المعلم: إننى أراك قد تأثرت أيها الفتى، فاحفظ دموعك فالآلام العظيمة هى التى تصنع الأمم العظيمة، كما أن الحزن النبيل هو الذى يصنع الحب الدائم، والثورة تعرف طريقها الصحيح وتدرك فقه الأولويات وتعلم المسار الذى يجب أن تمضى فيه.
جريدة المصري اليوم
28 يوليو 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/209479