الأب: يا بُنى، مثلما هناك صراع بين الطبقات - عبر تاريخ المجتمعات - فإن هناك صراعاً بين الأجيال تبدو ملامحه واضحة فى العقود الأخيرة، وعندما ثار الطلاب والشباب فى شوارع «باريس» فى أواخر عصر الزعيم العملاق «شارل ديجول» كان ذلك إيذاناً بحركة الأجيال الجديدة ضد موروثات فكرية وسياسية جرى التمرد عليها واستبدت الرغبة للخروج منها، بل إن حركة الطلاب فى «مصر» عام 1968 فى أعقاب النكسة، وحركتهم الثانية عام 1972 احتجاجاً على تأخر حرب تحرير «سيناء»، هى الأخرى مظاهر لصحوة الأجيال الشابة ومواجهة شيخوخة الأفكار وهرم النظم.
الابن: كفانا مواعظ، فكل جيلٍ ينسب لنفسه الأفضال ويتحدث بلغة تعليمية للأجيال التالية وكأنه يردد الوصايا العشر أو يتحدث بلهجة النبى «لقمان».. ارفعوا أيديكم عنا وكفاكم وصاية علينا، ودعونا نصنع المستقبل الذى سوف نعيشه بدلاً من التباكى على عصرٍ عشتم أنتم فيه وقبلتم المظالم التى حدثت خلاله. اتركوا لنا صناعة المستقبل واستمتعوا أنتم باجترار الماضى.
الأب: لقد ذكّرتنى أيها «العكروت» بما قاله «ابن المقفع» منذ أكثر من ألف عامٍ فى حديثه الشهير (فضل الأقدمين)، يومها قال: لقد ضاعت الفضيلة واختفت المروءة وانزوت الأخلاق الحميدة فى ظل الأجيال الجديدة. واستطرد متباكياً على منظومة القيم التى عاش بها جيله ثم اختفت من الأجيال التى تلته، هكذا عبّر مفكر وأديب عربى ضخم عن قضية «صراع الأجيال» بوضوحٍ وشفافية، ولقد أتيح لى شخصياً منذ قرابة عقدين من الزمان أن أصدر كتاباً بعنوان (حوار الأجيال) جمعت فيه بعض مقالاتى فى «العصر الناصرى» وأخرى فى عهد الرئيس «السادات» ومجموعة ثالثة فى عهد الرئيس «مبارك»، وعقدت مقارنة بينها لاكتشاف القواسم المختلفة فيها فوجدت أن قضية «الحرية» قد لازمتنى شاباً صغيراً ورجلاً ناضجاً يقف على أعتاب مرحلة الشيخوخة. إننى أقول لك ذلك يا بُنى حتى تتعلم أن الحكمة ليست حكراً على جيلٍ بعينه أو حقاً لعصر بذاته لكنها نتاج لجهد البشرية وتراكم أحقابها وتتابع أجيالها.
الابن: هذه هى محاولات التسلل لسرقة ثورتنا والعبث بعقولنا، لكننا متنبهون جيداً لما تسعون إليه، فإجهاض ثورة 25 يناير لن يحدث أبداً. إنكم تدافعون عن أوضاعٍ قديمة وتنتسبون لعصورٍ مضت وحان وقت رحيلكم وجاء دورنا لكى نبنى ونقود ونعمل ونحكم، فلكل زمانٍ رموزه، ولكل أوانٍ شخوصه، ولا داعى للتشبث بالماضى والحنين إليه.
الأب: خيراً ما قلت أيها الابن العزيز، لقد تحدثت عن رغبتكم فى البناء قبل القيادة، وفى العمل قبل الحكم، ولكن ما نراه الآن شىءٌ مختلف تماماً، لقد تفرغتم للانتقام من الماضى وتصفية الحسابات مع عصرٍ مضى، ولا بأس من ذلك، لكن المشكلة الحقيقية أنكم تفرغتم له واكتفيتم به ولا نرى منكم مبادرات بناءة ولا جهوداً استثنائية من أجل بناء وطنٍ أرهقته الأمراض ومزقته العلل. يا بُنى إن الدولة العصرية لا تبنيها الشعارات وحدها ولا الهتافات مهما ارتفعت بها الحناجر ولا «المليونيات» مهما تكررت، إن الإرادة الواعية والرؤية الشاملة هما السبيلان الوحيدان لاختراق الحاضر والدخول إلى المستقبل.
الابن: يا أبى، هذا ما أنتم قادرون عليه: نصائح مستمرة وكلمات كبيرة وعبارات رنانة. إننا نريد الإفادة من حكمتكم وتوظيف خبرتكم والتقاط تجاربكم، لكن دون وصاية علينا أو خنقٍ لآرائنا أو توجيه مستمر يجثم على صدورنا.
الأب: حسناً ما قلت أيها الفتى، ولكن ذلك ما يحدث فى ظل قولكم الدائم عن الإقصاء والاستبعاد والحديث بلغة مهينة للآخر ومسيئة للغير، وأنتم لا تعرفون بدقة تاريخ الناس وما قالوه وما فعلوه عبر السنين فى ظل مناخ الخوف والحظر والترهيب. إن عليكم أن تدركوا أن تقسيم الشعب خطيئة، وأن تصنيف المواطنين جريمة، ولا تنسوا أنكم ثُرتم من أجل الحرية فلا تجعلوها حقاً لكم وحدكم وآمنوا بالرأى المختلف وكونوا جزءاً من دولة عصرية حقيقية تؤمن بالمواطنة ولا تعزل أحداً إلا بسلطة القضاء ولا تسمح بقرارات عشوائية دون سيادة القانون. يا بُنى، إن العمر خبرة والحكمة تراكم ولا خير فيمن يسىء إلى الأكبر دون مبرر قوى، ويهين الأجيال السابقة دون أن يفتش بأمانة فى جيوبها وسجلات أبنائها، وتذكروا دائماً أن الوطن ملك للجميع.
جريدة المصري اليوم
7 يوليو 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/208986