عنوان هذا المقال مستقى من تعبير سودانى شائع يطلقه أشقاؤنا فى الجنوب عندما يريدون أن يشيروا إلى واحدة من حالتين، الأولى عندما لا يعجبهم الحديث ويرون فيه مواربة وضعفاً، والثانية عندما يشيرون إلى المسكوت عنه فى موضوعٍ بذاته، وأنا أستخدمه هنا بالدلالتين معًا فى وقت واحد، فأنا أظن أن المسكوت عنه فى «مصر» بعد الثورة لا يقل كثيراً عن الحديث المعلن والقول المتكرر، كما أنه لا يعكس، فى كثير من الأحيان، الرؤية الحقيقية للمواقف ولا التوصيف الصادق للمشهد السياسى برمته، لقد أخذ الحديث بعد «ثورة 25 يناير» ـ الفريدة فى أسلوبها، القوية فى تأثيرها ـ منحنى يقترب من طريقة التعامل التقليدى مع كثير من شؤوننا فى تاريخنا الحديث، فقد اختلطت الأمور أحياناً وتداخلت الأوراق بشكلٍ غير مسبوق، وأصبح ارتداء وشاح الثورة غطاء مطلوباً لماضٍ مضطرب أو موقف مهتز، وأضحت شعاراتها على كل لسان سواء من آمنوا بها أو من حاولوا استخدامها فى تحقيق أوضاع متميزة فى ظل ظروفٍ استثنائية، كما أصبح نفاق الثورة والثوار جواز مرورٍ سهل إلى أوضاع جديدة فى مستقبل قريب، ولنا هنا عدة ملاحظاتٍ مبدئية على ما جرى وما يجرى نسوقها فى النقاط التالية: أولاً: إن الثورة تعبير عن مشاعر الأغلبية، وبالتالى فإن لها مؤشرات ديمقراطية أساسية، وعندما يختلف المصريون حول قضية معينة فإن عليهم أن يلوذوا بالمعيار الديمقراطى وضرورة الاحتكام إلى القانون وأن يقبلوا بنتائجه مادمنا قد ارتضينا جميعاً بديمقراطية الثورة وحق كل مواطن فى التعبير عن رأيه دون ترهيب أو إقصاء أو استبعاد. ثانياً: إن حالة الاستعلاء التى أصابت بعض الثوار تذكّرنا باستعلاء بعض وزراء العهد البائد، ولقد انتقدت أولئك الوزراء فى برنامج تليفزيونى مع الإعلامية اللامعة «لميس الحديدى» قبل قيام الثورة بعدة شهور، عندما أشرت إلى حالة الغرور والتعالى التى أصابت الوزراء ورئيسهم فى السنوات الأخيرة من العهد السابق، وأنا أقول لأبنائنا من خريجى مدرسة التحرير الثورية إن التواضع والحديث المهذب والبعد عن التجريح والنأى عن المغالطة هى صفات الثوار الحقيقيين، وليس أبداً التطاول والعناد والتحليق فى سماوات الوهم والابتعاد عن أرض الواقع. ثالثاً: إن الثورة عملية تغيير جذرى وهى بطبيعتها منتجة مؤثرة وليست متراجعة متجمدة تنصرف إلى الانتقام وحده وتصفية الحسابات دون غيرها، مع تسليمنا بأن النظام السابق قد ترك من الاحتقان والمرارة ما قد يحتاج إلى عدة عقود قادمة للخلاص من تأثيره، ولا يتصور البعض من شبابنا أنهم يملكون مفاتيح الحكمة ويحتكرون أدوات المعرفة، فأعمار البشر لها ثمن، والخبرة رصيد متراكم يحتاجه المتحمسون من شبابنا ويطلبونه من أجيالٍ سبقتهم دون حساسية أو ادعاء أو استعلاء. رابعاً: واهمٌ من يتصور أن «مصر» الثورة قد ولدت فى الخامس والعشرين من يناير عام 2011 مقطوعة الصلة بما سبقها، فالحقيقة غير ذلك لأننا جميعاً أبناء هذا الوطن بغير تفرقة أو استثناء، ولا يزعم فريق من الناس أنهم يقودون والباقى يتبعهم، إذ إن سقوط حاجز الخوف قد أنهى هذه الأسطورة وجعلنا أمام مشهد تاريخى يحتاج إلى شجاعة التحليل وأمانة الرأى حتى لا تقفز إلى السلطة عناصر ذات أجندات خاصة دون اعتبارٍ للمصالح العليا للبلاد. خامساً: إن حالة الابتزاز الذى تعانى منه بعض قيادات شباب الثورة، وكذلك الإعلام المقروء والمرئى والمسموع لا يخلو هو الآخر من عناصر التشويه والتشويش وتخويف أصحاب الرأى وتقزيم كثيرٍ من المواقف تحت معاول الثورة التى باركها الجميع وانضم إليها ملايين الساخطين على النظام السابق بكل رواسبه المؤلمة التى سوف تظل مصدر حزن قومى لسنوات مقبلة. هذه قراءة عاجلة فى ملف الثورة وبين صفوف الثوار أريد أن أقول لهم منها إن أخطر ما فى الثورات عبر التاريخ أنها تلتهم أحياناً أبناءها، وتحدث نوعاً من عمى الألوان بين صفوفها وتشدهم نحو الانتقال إلى الماضى أكثر من اندفاعهم لبناء المستقبل، وسوف يظل «ميدان التحرير» «بالقاهرة» علامة مضيئة فى تاريخ الحرية السياسية والكبرياء الوطنى والقدرة على التغيير بطريقة «السهل الممتنع» .. إننا نريد لها أن تكون ثورة فريدة فى تاريخ الأمم والشعوب لا أن تنزلق إلى ما ضاعت بسببه ثورات قبلها وما أساء إلى مؤسسات وطنية فى ظروف سابقة، إننا نريد مجتمعاً يسعد فيه الجميع.. لا تمزقه الأهواء، ولا يعبث به العنف، لأن ثورتنا «سلمية سلمية»
جريدة المصري اليوم
2 يونيو 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/207970