لا أخفى قلقى على مستقبل الثورة المصرية بل الوطن بكامله من بعض الممارسات البريئة التى يقوم بها بعض شبابنا الذى حرك واحدة من أنبل ثورات التاريخ المعاصر، ولقد صدر لى كتاب منذ عدة سنوات بعنوان (من فكر الثورة إلى نهج الإصلاح) عالجت فيه جاهداً الفارق بين الإصلاحى والثورى وتعرضت بالتقويم الموضوعى لثورة 1952، بما لها وما عليها وتساءلت: لو أنها لم تقم هل كان بإمكان الإرهاصات الإصلاحية السابقة عليها أن تكون بديلاً لتلك الثورة وآثارها الضخمة فى تاريخ مصر والمصريين؟ وخلصت بوضوح إلى أن هناك فريقين أحدهما يؤمن بالنزعة الإصلاحية ويدرك أهمية التدرج فى الانتقال من مرحلة إلى أفضل منها ولا يتحمس كثيراً لمنطق الثورة المفاجئة بإجراءاتها الحاسمة وتداعياتها الضخمة، إلا أن هناك أيضًا من يرون على الجانب الآخر أن العلاج بالجراحة هو أقصر الطرق للتخلص من الداء واقتلاع جذوره واجتثاثه من تربة الوطن، ولا شك أن لدعاة كل من المدرستين أسبابهم ودوافعهم بل مبرراتهم، ولقد تخيلت فى كتابى الذى أشرت إليه لو أن ثورة 1952 لم تحدث، هل كان بمقدور التوجهات الإصلاحية المتناثرة التى سبقتها أن تنهض بعملية التغيير دون تحرك الجيش المصرى الباسل- حامى ثورات الوطن وراعى انتفاضاته وحاجز الصد أمام الطغاة والبغاة والغزاة- هل كان بمقدور جماعة الرواد والمفكرين والمثقفين المصريين الكبار من أمثال «أحمد لطفى السيد» و«طه حسين» و«العقاد» و«سلامة موسى» وغيرهم من السياسيين حتى شباب الطليعة الوفدية من أمثال «عزيز فهمى» و«إبراهيم طلعت» أن يقودوا المجتمع المصرى نحو غاياته وأهدافه؟ إننا نتذكر أن الأسرة الحاكمة ذاتها قد قدمت نماذج إصلاحية معروفة من أمثال الأمراء «عمر طوسون» و«عباس حليم» و«يوسف كمال» والذين سبقتهم جميعاً الأميرة الرائعة «فاطمة بنت إسماعيل» صاحبة الفضل الأول فى إنشاء «جامعة القاهرة» كما أن «قانون الإصلاح الزراعى» قد دعا إليه أيضاً إصلاحيون رواد من أمثال «محمد خطاب» و«إبراهيم شكرى» و«ميريت غالى»، ولكن منطق الثورة فى الجانب الآخر يرد على ذلك كله بأن هذه «التهويمات» لا تعبر عن الحقيقة ولا عن مجتمع النصف فى المائة الذى كان سائداً قبل وصول «جمال عبدالناصر» إلى السلطة، والآن دعنا نقم بقياسٍ مماثل.. هل كان بمقدور الإصلاحيين داخل الحزب الوطنى السابق أن يحدثوا تغييراً يحارب الفساد ويمتص طاقة الغضب الشعبى وأن يتجهوا بالبلاد إلى الأفضل؟ لا أظن أن ذلك كان ممكناً على الإطلاق، فلقد كانت للنظام السابق أدواته وسلوكياته التى يستعصى عليها الحل، وتصعب معها المواجهة فى ظل عقلية أمنية باطشة وغياب كامل للمعايير الأخلاقية فى التعامل مع المعارضين والمؤيدين على السواء، فلم يكن فى مقدور أسماء مثل «صبرى الشبراوى» أو«حسام بدراوى» أو«عبدالمنعم سعيد» أو حتى «أسامة الغزالى حرب» قبل خروجه على الحزب أن يغيروا تغييراً حقيقياً فى أفكار من كانوا يقودون السفينة ويحركون الأمور.
إننى أتذكر أن رجلاً مثل الدكتور «مصطفى كامل السعيد» وزير الاقتصاد الأسبق والأستاذ الجامعى المعروف قد دخل فى حوار موضوعى فى أحد اجتماعات «لجنة السياسات» بالحزب الوطنى المنحل منذ عدة أعوام فكان الرد عليه فى الجلسة العامة تسفيهاً وتسخيفاً بصورة فجة لا تليق بالتعامل مع الرجل ورؤاه وأفكاره، بل إن كاتب هذه السطور قد وقف فى أحد المؤتمرات الرسمية للحزب- الذى فرضت عضويته على كل من يجرى تعيينه فى مجلس الشعب- ليقول إن نسبة الـ 7 % كمعدل للنمو السنوى هى دلالة لا علاقة لها بالشارع المصرى وفقرائه ومهمشيه وعشوائياته وكادحيه فكان الرد قاسياً وعنيفاً وهى أنك أنت الذى تقول ذلك، ونحن نرى أن الحياة أفضل وأنها تكاد تكون وردية بالمقارنة بشعوب أخرى!
وعندما تجاسرت وأكملت الحديث قائلاً إن عوائد التنمية لا تصل إلى الطبقات الفقيرة بل يتلقفها القادرون فى الشرائح العليا من المجتمع، ودللت على ذلك بقانون الضرائب الأخير وتأثيره السلبى على توزيع الثروات والدخول بين طبقات المجتمع، على اعتبار أنه يساوى فى نسب الاقتطاع الضريبى بين شرائح المصريين فقرائهم وأغنيائهم بنسبة واحدة، بما يمثل إجحافاً شديداً بمحدودى الدخل وفقراء مصر. عندئذٍ قيل لى علناً «إنك تطوع تحليلك وفقاً لأفكارك أنت وهى تخصك وحدك ولا تلزمنا فى شىء»!
وأود أن أكمل هنا أننى قد سعدت بلقاء أعدادٍ كبيرة من قيادات ثورة الشباب، أذكر منهم على سبيل المثال الدكتورين «عصام النظامى» و«طارق زيدان» والسيدين «محمد جمال» و«منتصر النوبى» وغيرهم عشرات ممن لا تسعفنى الذاكرة بأسمائهم اللامعة وروحهم الثورية الذين يرجع الفضل فى تعرفى عليهم إلى الصديق «أحمد الفضالى» رئيس «جمعية الشبان المسلمين» و«حزب السلام» وأحد ثوار التحرير، وقد لاحظت فيمن التقيت بهم عقلانية وواقعية وقدرة على فرز المواقف وتحليل الأحداث دون شططٍ أو مغالاة إيماناً بمبادئ ثاروا من أجلها بعد أن آمنوا بها، ولكن ذلك المشهد يختلف تماماً عن أصواتٍ أخرى ترى أن ميلاد الثورة العظيمة فى 25 يناير 2011 هو ميلاد الدولة المصرية كلها! وأن كل السابقين على ذلك التوقيت ممن تعاملوا مع نظامٍ حكم البلاد ثلاثين عاماً كاملة هم خونة ومرتزقة وفلول لا تنتمى إلى هذا الوطن!
وهذا تفكير خطير لأنه يقوم على منطق الاستبعاد والإقصاء واستبدال ديكتاتورية الثورة- على حد تعبير الثائر «د.طارق زيدان»- بديكتاتورية «نظام مبارك» الباطشة التى كانت ترهب وتروّع كل من يقف فى طريقها، وعندما قرأت فى الصحف أن رجلا بقيمة ومكانة ووطنية «د.صبرى الشبراوى» قد طُلِب منه مغادرة الاجتماع الكبير لـ«الحوار الوطنى» برئاسة رجل الدولة المحترم «د.عبدالعزيز حجازى» شعرت بقلقٍ حقيقى، وأدركت أن المسار قد ينحرف، وأن مبادئ الثورة يمكن أن تضيع فى زحام غضب الانتقام وانفعال الرفض لما جرى فى العقود الثلاثة الأخيرة، وأظن أن ذلك يعد عدواناً مباشراً على الديمقراطية وحرماناً للوطن من خبراتٍ وكفاءاتٍ وقدرات يبدو الثوار أشد حاجة إليها من أى وقت مضى.
هذه قراءة أمينة ومجردة للفوارق المطموسة بين الثوار الأطهار والإصلاحيين الأحرار، بينما الكل يسعى إلى هدفٍ واحد هو رفعة الوطن واستعادة عافيته وانطلاقه نحو الأفضل.
جريدة المصري اليوم
26 مايو 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/207738