بعد أن كتبنا فى المقالات الثلاث السابقة عن مصر وكل من «النموذج الهندى» و«التركى» و«الإيرانى» مستعرضين تجارب تلك الدول التى تتشابه معنا فى بعض الظروف التاريخية والبشرية واستعرضنا نظم الحكم فيها وما يمكن أن يستلهمه منها النظام المصرى بعد الثورة الشعبية، بآثارها الكبرى وتداعياتها الواسعة، وبعد أن انتهينا من ذلك التحليل الأفقى لتلك التجارب الثلاث يكون من المتعين علينا أن نتجه رأسيًا إلى نظم الحكم الثلاثة التى تلت ثورة يوليو 1952 واضعين فى الاعتبار منذ البداية أننا نرى أن فى حكم «الأسرة العلوية» الذى امتد لقرابة قرن ونصف إيجابياتٍ كثيرة ولا نقف عند حدود النقد التقليدى لعصر «فاروق» أو «توفيق»، فنحن لا ننسى أن «محمد على الكبير» هو مؤسس «مصر الحديثة» وأن «إسماعيل باشا» هو واضع لبنات التحديث العمرانى فى هذا الوطن وأن «الخديو عباس حلمى الثانى» كان نصيرًا للحركة الوطنية فى بعض مراحلها وأن «فؤاد الأول» رغم جهامته وعزلته أكمل بعض مظاهر التحديث فى الدولة المصرية، بدءًا من «الجامعة» مرورًا بعدد من «الجمعيات العلمية» وصولاً إلى «المتاحف التاريخية»، كما أن أفرادًا من العائلة المالكة لعبوا دورًا تنويريًا وسياسيًا كان له تأثيره الإيجابى فى شخصية «مصر الحديثة»، نذكر منهم الأمراء «عمر طوسون» و«عباس حليم» و«يوسف كمال» وغيرهم من الأمراء والأميرات الذين أسهموا بقدر كبير فى إقامة «المبرات الصحية» و«المستشفيات الحديثة» واهتموا بإنشاء الحدائق ورعاية الفنون والآداب، أقول ذلك لكى أؤكد أننا يجب ألا نحمل وترًا تجاه فترة معينة من تاريخنا وأن نلتزم دائمًا بالموضوعية الكاملة والحياد الأكاديمى عند الدراسة والتحليل، وأظن أن عصر «جمال عبدالناصر» من أكثر العصور إثارة للجدل فى تاريخنا الحديث، فلقد كان الرجل قامة قومية عالية، اكتسب مكانة محلية وإقليمية ودولية جعلته بحق «من ملأ الدنيا وشغل الناس»، وبرغم أنه قد غادر الحياة وبلاده محتلة تعانى من آثار هزيمة يونيو 1967 إلا أن الروح التى بثها والشعلة التى أوقدها ظلت حية فى ضمير أجيال جاءت بعده، وإذا كنَّا نعيب عليه اعتماده الكبير على الأجهزة الأمنية واختلاط النظرية السياسية لحكمه وغياب الديمقراطية وتراجع مساحة الحريات، لكن يجب أن نعترف بأن «عبدالناصر» ليس ذلك فقط، فالذين يختزلون تاريخه فى «الحراسات» المفروضة وفى «دولة المخابرات» ومظاهر «الحكم البوليسى» أحيانًا يتجاهلون فى الوقت ذاته الإيجابيات الكبرى من «تأميم قناة السويس» إلى «بناء السد العالى» إلى سياسته القومية ودوره فى تأسيس حركة عدم الانحياز والمواجهة الحادة بين عصره فى جانب والدولة العبرية- مدعومة بالقوى الكبرى- فى جانب آخر، فلقد ظل الرجل طوال حياته وفيًا لمبادئه، صادقًا مع نفسه، نظيف اليد، لم تلوثه السلطة، فعاش منحازًا للفقراء مؤمنًا بالعدالة الاجتماعية مخلصًا للطبقات الكادحة من أبناء الكنانة، وسوف يظل التاريخ يذكر دائمًا أن مشكلة «عبدالناصر» الحقيقية أنه حارب فى أكثر من جبهة فى وقت واحد، فكان يقود الثورة السياسية والثورة الاجتماعية أيضًا ويتحرك على المسار القومى من خلال الشارع العربى، ويواجه القوى الكبرى بضراوة على الجانب الآخر، مؤمنًا بالقيم التى ثار من أجلها وانتهى بسببها!
فقد رحل عن عالمنا بعد توديعه أمير الكويت الراحل إثر انتهاء مؤتمر «القاهرة» فى غضون أحداث «أيلول» الأسود (سبتمبر 1970)، وسوف يبقى «عبد الناصر» فى تاريخنا «زعيمًا قوميًا» أكثر منه «رجل دولة» كما كان «ثائرًا» أكثر منه «سياسيًا»!
والذين عاشوا الفترة الناصرية- وقد كنت فيها شابًا يتابع ويدرك- يتذكرون سنوات الحلم القومى بكل ما لها وما عليها والمشاعر الفياضة التى أحاط بها الشارع العربى الرئيس الراحل «عبدالناصر» الذى كانت جنازته استفتاءً شعبيًا منقطع النظير وقديمًا قال فقيه عربى لحاكم قوى «بيننا وبينكم الجنائز»!
جريدة المصري اليوم
21 أبريل 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/206483