عندما هبطت الطائرة التى كانت تقل الإمام «الخومينى» فى مطار «مهرا آباد» فى العاصمة الإيرانية «طهران» كان ذلك الرجل الطاعن فى السن يقود أكبر ثورةٍ فى تاريخ «إيران» الحديث وربما فى إقليم غرب آسيا كله، ولقد أدلى الإمام العائد بعد سنوات المنفى لمرافقيه فى الطائرة بعدما تأكد أن ثورته قد أطاحت بعرش «الطاووس» وأن «الشاه» قد غادر البلاد إلى غير رجعة بتصريح شهير قال فيه: (لقد قاد «العرب» الأمة الإسلامية لعدة قرون ثم تلاهم «الأكراد» لقرابة قرنين ثم جاء «الأتراك» فقادوها أكثر من خمسة قرون وقد جاء الآن دور «الفرس» لقيادة الأمة الإسلامية كلها)، ولاشك أن هذه العبارة الكاشفة هى عبارة مفتاحية لفهم منهج تفكير «الثورة الإسلامية» التى تقمصتها شخصية الدولة الإيرانية على نحوٍ تغير به ميزان القوى الاستراتيجى فى منطقة «الخليج» بل وفى الشرق الأوسط أيضًا، والنموذج الإيرانى الذى يقوم على «ولاية الفقيه» ودور «الإمام الغائب» والتدرج الهرمى لرجل الدين فى المذهب الشيعى «الاثنا عشرى» لا يتواءم مع «مصر» من قريبٍ أو من بعيد، وعلى الرغم من أن استقراء التاريخ يؤكد أن «مصر» أكثر بلد سنى تأثرًا بالطقوس الإسلامية الشيعية بدءًا من احتضان «آل البيت» وشيوع المزارات الدينية واحتفالات «عاشوراء» و«شهر رمضان» مع عشق الطقوس الفاطمية «أول دولة شيعية فى التاريخ الإسلامى» ومع أننى قلت منذ عدة سنوات إن (الشعب المصرى سنى المذهب شيعى الهوى) إلا أن «مصر الأزهر» لا تتقبل سياسيًا «النموذج الإيرانى» خصوصًا بعد أن عبرت القومية الفارسية عن نزعتها القيادية ورغبتها فى طرح نموذج الهيمنة السياسية، ولعل المشكلات التى حدثت بين «إيران» وبعض دول الخليج خصوصًا «الإمارات والبحرين» هى مؤشرٌ على المظلة القومية للسياسة الإيرانية رغم المؤثر الإسلامى الكبير فيها، ويكفى أن نعلم أن من يذكر فى «إيران» اسم «الخليج العربى» يجد ردًا قاسيًا من الإيرانيين لأنهم يتمسكون باسم «الخليج الفارسى»، وعندما اقترحنا عليهم تسميته «بالخليج الإسلامى» كحل وسط بين القوميتين العربية والفارسية تحت مظلة الدين المشترك رفضوا ذلك أيضًا!
ويقوم «النموذج الإيرانى» على نمطٍ من الديمقراطية تقترب فى بعض ملامحها من «الشورى» الإسلامية التى تتميز بتركيبة يلعب فيها «المرشد العام» دورًا فوقيًا ويمارس «رئيس الجمهورية» صلاحياته بمباركة من ذلك «المرشد» ودعمٍ منه فضلاً عن «مجلس مصلحة النظام» الذى كان يترأسه «رفسنجانى» حتى أسابيع قليلة مضت ثم جرى انقلابٌ أبيض أطاح به وجاء ببديلٍ عنه، ولا يجب أن يتصور البعض أن «إيران» تطبق ديمقراطية إسلامية مثالية فهم يتحدثون هناك أيضًا عن «تزوير فى الانتخابات» أحيانًا وشغبٍ يحدث بعدها بالإضافة إلى تجاوزاتٍ لا تخلو من بعض مظاهر الاستبداد والفساد، ولقد زرت «إيران» منذ عدة سنوات ورأيت شعبًا واقعيًا يلهث وراء العائد المادى فى «البازارات» و«الدكاكين الصغيرة» ويقدّر «مصر» تقديرًا خاصًا ويتحدث عن شعبها بمودةٍ كبيرة، حيث تتذكر أجياله القديمة المصاهرة الملكية وأن أول إمبراطورة لهم كانت هى «فوزية» أخت الملك «فاروق» أطال الله فى عمرها- كما يتحدثون عن التشابه التاريخى والسكانى بين الدولتين الإسلاميتين الكبيرتين، وأنا ممن يطالبون بالتعايش مع «الدولة الفارسية» مع تسليمنا الكامل بأجندتها التى لا تخلو من مظاهر الهيمنة فى العالمين العربى والإسلامى بدءًا من «البحرين» مرورًا بمنطقة «الخليج» وصولاً إلى «لبنان» وتركيبتها الخاصة، وأود أن أوضح هنا أن «التيار الإسلامى» فى «مصر» يختلف عنه فى «إيران» لا بسبب اختلاف المذهب الدينى فقط ولكن أيضًا لأسباب تتصل باختلاف الظروف السياسية والمؤثرات التاريخية وطبيعة التدين لدى الشعبين، وعندما التقيت بالسيد «خاتمى» رئيس الجمهورية الإيرانية الأسبق الذى زار «مصر» منذ عدة أعوام تحدث الرجل باحترام شديد عن «مصر الإسلامية» وأبدى تقديره على نحو خاص لمكانة «الأزهر الشريف» حتى قال فى خطبته بقاعة الإمام «محمد عبده» إنه يتطلع إلى تلك المؤسسة الإسلامية الكبرى الأزهر- لكى تقود العالم الإسلامى سنته وشيعته على حدٍ سواء..
إننا إذا كنَّا قد كتبنا فى المقالين السابقين أن النموذج «الهندى» يتقارب مع مصر من زاوية «الدولة البرلمانية» وأن النموذج التركى يقدم لنا نمطًا مقبولاً من حيث احتوائه «للتيار الإسلامى» ضمن إطار الديمقراطية الغربية التى تستظل بمظلة الدولة المدنية الحديثة إلا أننا لا نرى فى «النموذج الإيرانى» ما يمكن أن يقدمه لنا إضافة مختلفة باستثناء «ذكاء دبلوماسيته» ووضوح «أجندته» إقليميًا ودوليًا على نحوٍ افتقدته «مصر» فى العقود الأخيرة!
جريدة المصري اليوم
14 أبريل 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/206209