ردد كثيرٌ من السياسيين المصريين وخبراء نظم الحكم فى الشهور الأخيرة حديثاً متصلاً حول النموذج التركى وإمكانية تطبيقه، ولو باختلافات مقبولة على الواقع المصرى، وكنت قد كتبت منذ عدة أعوام مقالاً فى جريدة «الحياة اللندنية» كان عنوانه (هل نحن فى حاجة إلى أتاتورك آخر؟) عالجت فيه العلاقة بين الدين والسياسة فى الوطن العربى وأشرت بوضوح إلى أهمية التجربة التركية بالنسبة لنا باعتبارها رصيداً إنسانياً من دولة إسلامية ارتبطنا بها تاريخياً لعدة قرون، وعلى الرغم من أن «الأتاتوركية» قد جاءت لتصفية الإرث العثمانى وتفكيك تركة «رجل أوروبا المريض»، فإننا نرى فيها أكبر انقلابٍ سياسى فى التاريخ الحديث للعالم الإسلامى، لأنها استهدفت آخر خلافة وقضت عليها وزرعت روح التغريب فى الدولة التركية، بل أحلت «الأبجدية اللاتينية» محل «الأبجدية العربية» لغة القرآن، إلا أننا نعترف فى الوقت ذاته بأن «مصطفى كمال أتاتورك» قد انتشل بلاده من غياهب العصور الوسطى إلى مشارف القرن العشرين، ولقد كان الجيش التركى ولا يزال هو حامى تقاليد «أبى الأتراك»، الذين يعرفون «تركيا» جيداً، ويدركون أن عقوبة من يتجاسر بالنقد لمبادئ وأفكار «أتاتورك» هو أقرب إلى الكافر فى بعض الدول الإسلامية الأخرى، ولقد ظل الجيش التركى حارساً للشرعية، لكنه انقض عليها عدة مرات، نتذكر منها أسماء جنرالات مثل «جمال جورسيل» و«كنعان أفرين» وغيرهما، كما أن هناك رهطاً كبيراً من الساسة العلمانيين بدءاً من «عصمت إينونو» مروراً بـ«جاويد» وصولاً إلى «سليمان ديميريل» و«تورجوت أوزال» حيث حاول الأخير العودة إلى العثمانية شرقاً إذ كانت دوافعه اقتصادية فهو واضع أسس انطلاق الاقتصاد التركى إلى آفاقه الحالية، وعندما وفد «حزب الفضيلة» إلى السلطة بقيادة «نجم الدين أربكان» جاء بعده بعدة سنوات الحكم الحالى بما يمثله من نقلة نوعية فى مفهوم الأحزاب الإسلامية المعاصرة، فقد نجح ثنائى «جول» و«أردوغان» فى قيادة «تركيا» إلى ما هو أفضل سياسياً واقتصادياً على المستويين الإقليمى والدولى حتى أضحى «النموذج التركى» مغرياً لدول الجوار العربى والإسلامى وغير مرفوض من الغرب الأمريكى أوالأوروبى أيضًا، إذ إن «حزب العدالة والتنمية» قد حقق شعبية واسعة فى الشارع التركى، بل غيّر مسار الدولة التركية فى توازنٍ ذكى بين الدوافع الغربية الأوروبية والعناصر الشرقية الإسلامية، كما أن موقف زعيم الحزب «رجب طيب أردوغان» من الدولة الإسرائيلية والعدوان على «غزة» والانقضاض على «سفينة السلام» التركية فى المياه الدولية- قد أكسبه شعبية ضخمة، خصوصاً أن ذلك جاء بعد مشادته العلنية على الهواء مع السياسى الإسرائيلى العجوز «شيمون بيريز»، ولابد أن أعترف هنا بأننى ممن يستهويهم «النموذج التركى»، خصوصاً أننى أعرف وزير الخارجية الحالى السيد «أحمد داوود أوغلو» عن قرب كما أننى لست بعيداً عن «د.أكمل الدين أوغلو»، أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامى الذى تفضل فأهدانى منذ عدة سنوات كتابه القيم (الأتراك فى مصر)، لذلك فإننى أقول صراحة إن النظام التركى يستحق الدراسة والتأمل من جانبنا بل إننى أدعو أشقاءنا من قيادات جماعة «الإخوان المسلمين» إلى ضرورة القيام بقراءة جيدة للتجربة التركية، خصوصاً أنهم يزمعون إعلان حزبهم السياسى الجديد «الحرية والعدالة» فنحن لا نرفض أن يكون المخزون الفكرى لحزبٍ عصرى هو الإسلام الحنيف بشرط أن تكون الممارسة سياسية بحتة لا تخلط الأوراق ولا تزايد بالنصوص ولا تقلق الآخر، فالحديث عن «النموذج التركى» له أهميته وضرورته فى الظروف التى تمر بها «مصر»، خصوصاً بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 وما أفرزته من روح جديدة تسمح بالاندماج الكامل بين الأحزاب السياسية المختلفة، فضلاً عن الفهم العصرى للعلاقة بين الدين كمخزون حضارى وبين السياسة باعتبارها نمطاً مختلفاً فى التفكير وأداة فى التعامل ومحاولة لتسيير الأمور دون ارتباط حتمى بالأخلاق بل بابتعاد متعمد أحياناً عن القيم الموروثة!..
إننا أمام معادلة صعبة تحتاج إلى أفقٍ واسع ورؤية بعيدة وقدرة على الخيال تسمح باجترار التجربة التركية مع التسليم بالاختلافات القائمة بين النموذجين المصرى والتركى، لذلك فإننى لا أتصور إمكانية تطبيق «النموذج التركى» فى «مصر» قبل عدة سنوات قادمة، فالأمر يحتاج إلى فهم موضوعى للعلاقة بين الإسلام والسياسة مع إدراك كامل للمتغيرات التى طافت بالمنطقة العربية وغيرت معالمها وأحدثت شرخاً بين التيارات الدينية والتيارات المدنية الأخرى مؤمنين بأن الأمر يحتاج إلى قدر كبير من الشجاعة والإيمان بـ«المواطنة» والتطلع إلى نظام برلمانى يساعد كثيراً على فهم ما جرى فى «تركيا» فى السنوات الأخيرة ونقل ما يناسبنا من تلك التجربة الرائعة شريطة أن يكون لدينا من هم فى مستوى «أردوغان» ورفاقه، فالأمر ليس سهلاً على الإطلاق، لكننى أكرر مرة أخرى أن «النموذج التركى» يستهوينا، وقد يكون فيه بعض ما يناسبنا وأنضم إلى المطالبين بالتفكير فيه والسعى نحوه على أن يكون الجيش حارساً للديمقراطية حامياً للشرعية فى إطار دستور جديد يتبنى المبادئ العصرية والرؤى الحديثة والغايات التى تؤمن بالإنسان وحريته وتعلى من كرامته.
جريدة المصري اليوم
7 أبريل 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/205919