أنتوى أن أغوص - عبر ست مقالاتٍ متتالية - فى الخبرات السياسية لدولٍ ثلاث ليست بعيدة عنا من حيث التركيبة البشرية أو الظروف التاريخية أو الموقع الجغرافى، وأعنى بها «الهند» و«تركيا» و«إيران» ثم أنتقل إلى «مصر عبدالناصر» و«مصر السادات» ثم «مصر مبارك»، فى محاولة جادة وموضوعية يحكمها التجرد الكامل للوصول إلى الحقيقة الكاشفة لمسار مستقبلنا بعد ثورة 25 يناير 2011، وذلك من خلال هذين المستويين الجغرافى والتاريخى، أو عنصرى المكان والزمان حتى نتمكن من اختيار الطريق الأمثل ونحن أمام منعطفٍ خطير سوف تؤثر قراراتنا أثناءه فى مستقبل هذا الوطن الذى يستحق أفضل بكثير مما هو عليه، ولقد عايشت شخصياً التجربة الهندية عبر سنواتٍ أربع قضيتها فى العاصمة «نيودلهى» حيث كنت أعمل تحت إشراف سفيرنا الفقيه القانونى الوطنى الدكتور «نبيل العربى» وزير الخارجية الحالى، وشهدت عن قرب كيف تمضى تلك الدولة الآسيوية الكبرى على مسارات متوازية فى جدية والتزامٍ شديدين، ولعلى أُبسّط فى إيجاز ملامح تلك التجربة الإنسانية الرائدة من خلال المحاور التالية:
أولاً: «الهند» هى أكبر ديمقراطية فى العالم المعاصر على الإطلاق، إذ يخرج فيها قرابة سبعمائة مليون ناخب على امتداد ثلاثة شهور للمشاركة فى الانتخابات البرلمانية للمجلسين النيابيين (اللوك صابها) و(الراجا صابها)، لذلك بدأ الهنود قبل غيرهم تجربة غمس الأصبع فى الحبر الفسفورى، كما قضت الديمقراطية الهندية على أسطورة أن الدول الفقيرة أو ذات المعدلات المرتفعة فى الأمية لا تصلح لممارسة حقوقها السياسية، ولا تعرف المشاركة أو التعددية ولا تتفهم معنى الديمقراطية ولا تستحقها، لأنها غير مؤهلة لها، كما كان يتشدق بذلك بعض المسؤولين المصريين قبل «ثورة يناير» الشعبية، ولا شك أن الديمقراطية فى «الهند» حقيقة تستحق الاحترام بل الإكبار، فالهنود البسطاء هم الذين أسقطوا «أنديرا غاندى»، رئيسة الوزراء، فى دائرتها الانتخابية أثناء وجودها فى الحكم لكى تعود بعد ذلك بسنوات قليلة وبأغلبية كاسحة بعد أن أصلحت من أمرها وطهّرت صفوف أنصارها، وما أكثر الساعات التى قضيتها فى البرلمان الهندى تعلمت خلالها أن ذلك الشعب الجاد قد أرسى قواعد وتقاليد سوف تحمى ديمقراطيته دائماً.
ثانياً: إن التنمية فى «الهند» هى التزام إنسانى قبل أن تكون قراراً سياسياً اتخذه المجلس الأعلى للتخطيط فى مطلع خمسينيات القرن الماضى والتزمت به الحكومات المتعاقبة بشكلٍ صارم فلم يفتحوا أبواب الاستيراد على النحو الذى فعلناه، فأصبحت «الهند» واحدة من الدول الصناعية العشر الكبرى ودولة اكتفاء ذاتى فى الحبوب الغذائية ودولة نووية لها أبحاث فضاءٍ وصواريخ متقدمة، فى الوقت الذى يركب فيه رئيس الجمهورية السيارة «أوبل» موديل 53 مع تجديدات سنوية دون بذخٍ أو إسراف، فإذا دخلت المعهد الطبى الهندى الكبير فسوف تكتشف أنه رغم بساطته وتواضع مظهره يقدم خدمة علاجية تضارع مثيلاتها فى الدول الغربية. وعندما دعيت منذ عدة أعوام لإلقاء محاضرة أمام المعهد الاستراتيجى الهندى لفتت نظرى البساطة المتعمدة والتقشف الواضح فى المكان، وعندما بدأ العلماء الهنود وخبراء الاستراتيجيات يتحدثون معى أدركت أن القيمة فى العقول والرؤى والأفكار وليست فى المبانى أو المظاهر أو الملابس، وأيقنت أن مصيبتنا الكبرى فى «مصر» أننا جرينا وراء الشكل وأهملنا المضمون، ويكفى أن نتذكر أننا كنا والهنود نعمل فى مشروع مشترك لتصنيع طائرة فى مطلع ستينيات القرن العشرين وكان عليهم بناء جسم الطائرة وكان علينا الجانب الفنى منها بدءاً من المحركات وصولاً إلى قوة الدفع مروراً بميكانيكية التوازن، ولكننا توقفنا فى منتصف الطريق ومضى الهنود بقوة وجسارة نحو الفضاء المطلق!
وإذا كان الهنود يعتمدون على التفوق فى العنصر البشرى فتلك ميزة نملكها نحن أيضاً ولكن مشكلتنا الحقيقية لخصتها أنا شخصياً ذات يومٍ لوزير الخارجية الراحل الدكتور «أحمد حسن الزيات» عندما سألنى وهو رئيس لجمعية الصداقة المصرية - الهندية فى القاهرة، وكنت أنا نائبه حيث كان سفيراً فى «نيودلهى» فى ستينيات القرن الماضى، عن مغزى تقدم «الهند» الكاسح وجمودنا الواضح، فأجبته أن السبب يتلخص فى كلمتين لا ثالث لهما هما: الجدية والاستمرار، فالهنود جادون فيما يفعلون وهم يستمرون دون انقطاع فيما يبدأون، أما نحن فنكاد نكون على العكس تماماً.
أقول ذلك وأنا أتحسر على تدهور نوعية العنصر البشرى فى بلادنا مع انهيار العملية التعليمية فى العقود الأخيرة بشكل لا يختلف عليه اثنان، وأتذكر فى أسفٍ أننى عندما عملت قنصلاً لبلادى فى «لندن» مع مطلع سبعينيات القرن الماضى كانت الجامعات البريطانية تقبل الطبيب المصرى دون «امتحان معادلة» احتراماً لمستوى الدراسة لدينا وتكتفى باختبار محدود له فى اللغة الإنجليزية بينما كانت تُلزم الطبيب الهندى بـ«امتحان معادلة» وإن كانت تعفيه من اختبار اللغة الانجليزية! فما أبعد الليلة عن البارحة وما أكثر ما فقدنا على صعيد المعرفة والعلم، ومازالت عبارة قالها الرئيس الأمريكى السابق «بيل كلينتون» أمامى ذات يوم هى أنه لا يتحدث أمريكيان عبر الإنترنت إلا وبينهما وسيط هندى تعبيراً عن التفوق الذى حققته تلك الدولة فى تكنولوجيا المعلومات.
ثالثاً: إن «الهند» دولة «علمانية» من طراز رفيع، «فالهندوكية» هى ديانة السواد الأعظم من الشعب فى معظم الولايات، بينما يمثل المسلمون ما يقترب من 10% من السكان، وهى نسبة قريبة من الوجود المسيحى فى «مصر»، ومع ذلك خرج الهنود من دائرة الطائفية سياسياً، وبنوا دولة ديمقراطية علمانية حديثة، فالمعابد الهندوكية فى كل مكان والمساجد موجودة أيضاً بل والجامعات الإسلامية الكبيرة فضلاً عن معابد السيخ الرائعة لأقلية لا تزيد نسبتها على 3% يتمركزون فى إقليم «البنجاب»، ولكن الفارق بيننا وبينهم هو أنهم لم يجعلوا الدين مصدراً للخصومة السياسية ولا وسيلة لحيازة السلطة، وأقاموا نظاماً برلمانياً متميزاً يبدو فيه رئيس الدولة رمزاً وطنياً بسلطة أدبية فقط بينما رئيس الحكومة القادم من الحزب الفائز فى الانتخابات هو المسؤول الأول فى الدولة، لذلك كان طبيعياً أن يتوافد مسلمون من الأقلية على منصب رئيس الدولة، بدءاً من «ذاكر حسين» مروراً بـ«فخر الدين على أحمد»، وصولاً إلى عالم الصواريخ «أبوبكر زين العابدين عبدالكلام»، كما عرفت الهند نائباً للرئيس هو «محمد هداية» الذى كانت تربطه صلة قربى بالأميرة «ثروت» باكستانية الأصل قرينة الأمير المثقف «الحسن بن طلال» الذى كان ولياً لعهد «الأردن». ولو أننا أردنا أن نمضى على طريق تلك التجربة الرائعة وأن نتلمس خطى أشقائنا الهنود فإن النظام البرلمانى فى رأينا على الأقل هو الأوفق لـ«مصر» لأنه يفتت أسطورة الحاكم الفرعون ويفتح أبواب الديمقراطية الواسعة ونوافذ التعددية الجادة، وكم كنت أتمنى لو أننا قدمنا رموزاً مصرية كبيرة لرئاسة الدولة فى هذه المرحلة العصيبة من حياتنا، وأنا أذكر هنا أسماء لثلاثة من الشوامخ - على سبيل المثال - بغض النظر عن تقادم العمر واختلاف الديانة، فأقول إن الدكاترة «بطرس بطرس غالى» و«عبدالعزيز حجازى» و«أحمد كمال أبوالمجد» كان يمكن أن يكونوا نماذج مقابلة لما فعله الهنود فى تاريخهم الحديث من وضع شخصيات رمزية على قمة الدولة يفاخرون بها أمام العالم ويتيهون بوجودها، ولكن أين نحن من هذا النمط الراقى من التفكير الديمقراطى والمخزون الأخلاقى الذى لا يتعارض مع الدين ولكنه يرفع لواء المعرفة، ولا يتعارض مع السياسة ولكنه يعلى من قدر الثقافة؟.. إن أسفى على ما رأيت يا بلادى شديدٌ وعميق.
... أقول ذلك وأنا أتذكر مع العالم العربى الراحل «البيرونى» ما قاله عن «الهند»، بلد الثقافات والحضارات والديانات التى عاشت على أرضها كل الفضائل، كما عرفت فى تاريخها أيضاً كل الرذائل ولكنها خرجت من كل ذلك بدولة عصرية حديثة ينحنى أمامها الإنسان المعاصر تحية وتقديراً، فهم يبحثون عن الأكفأ ولا يتحدثون عن ديانته ويدفعون بالأحق ولا يتذكرون طائفته، فرئيس وزرائهم الذى قاد المعجزة الاقتصادية واحتل المنصب الأول فى الدولة هو من «طائفة السيخ» التى قلنا إن نسبتها لا تزيد على 3% من السكان.. فانظروا أيها السيدات والسادة إلى تلك التجربة الهندية العظيمة، ولنتلمس خطى أشقائنا الذين تشابهوا معنا عندما اقتربت روح «المهاتما غاندى» من فكر «سعد زغلول» قائد ثورة 1919، وعندما أثرت عقلية «نهرو» العظيم فى «جمال عبدالناصر» قائد ثورة 1952. إنهم شركاء تاريخيون لنا رغم بُعْد المسافة، وقد آن الأوان للحاق بهم وبغيرهم ممن قطعوا أشواطاً واسعة على طريق الديمقراطية والتنمية، طريق التعددية السياسية والتنوع الثقافى، طريق المعرفة والتقدم العلمى، طريق التكنولوجيا الحديثة والاكتفاء الذاتى، طريق دولة آمنت بالمساواة السياسية بين كل أبنائها رغم كل العوائق الاجتماعية من تعدد الديانات واختلاف اللغات وتباين الثقافات، ولكن منطق الضرورة فرض عليهم أن يعملوا جميعاً من أجل «الهند» أم الجميع.. أين نحن منهم؟ هذا هو وقت طرح مثل هذا السؤال.
جريدة المصري اليوم
31 مارس 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/205642