لم أكن قد تجاوزت الخامسة من عمرى بشهور قليلة عندما وقفت أرقب التجمعات الانتخابية فى قرية «المغازى باشا» بمركز «المحمودية» فى محافظة «البحيرة»، لقد كانت الانتخابات البرلمانية لعام 1950 التى عاد بها «حزب الوفد» إلى الحكم وكان التنافس شديداً بين الأستاذ «أحمد السكرى» نائب المرشد العام لجماعة «الإخوان المسلمين» حينذاك و«د.محمد المغازى» ابن «المغازى باشا» الذى كان يمتلك أكثر من أربعة عشر ألف فدان زراعية- وأمُتّ له بصلة قرابة فهو خال أبى وأمى معاً- فى ذلك اليوم بدأت أعرف كلمة انتخابات وصناديق اقتراع وعمليات تصويت ونتائج يجرى إعلانها، حيث كانت المنافسة حادة بين مرشح جماعة «الإخوان المسلمين» ومرشح «حزب الوفد»
وبرغم تعاطفنا العائلى مع مرشح «الوفد» فإننى بدأت أتساءل عن جماعة «الإخوان المسلمين» بعد ذلك، وظللت أتابع نشاطها على مر السنين حيث إن عمى- أطال الله فى عمره- عالم أزهرى كان شيخاً «لمعهد دمنهور» الدينى، وجاءه من الجماعة رفاق يطلبون انضمامه إليهم فى نهاية خمسينيات القرن الماضى فازداد شغفى بالجماعة خصوصاً بعد إعدام نخبة من قياداتهم إثر محاولة اغتيال الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر» بميدان المنشية بالإسكندرية فى نوفمبر 1954، ومازالت أصداء طلقات الرصاص تتداعى إلى مسامعى من جهاز الراديو ونحن نتابع ذلك الخطاب، ومازلت أتذكر المقولة الشهيرة للشهيد «عبدالقادر عودة» عندما جرى إعدامه وقدمه مكسورة حيث قال قولته الشهيرة (اللهم اجعل دمى وبالاً عليهم واجعل بأسهم بينهم شديدا) وهو شقيق أستاذى الجليل «د.عبدالملك عودة» ووالد العالم الفذ الدكتور «خالد» الأستاذ بجامعة أسيوط الذى استمعت منه مؤخراً إلى أفضل محاضرة عن تقسيم «السودان» وتأثيره على مسألة مياه النيل وقد كان ذلك بدعوة من «المجلس المصرى للشؤون الخارجية»، فجماعة «الإخوان المسلمين» لا تبدو بعيدة عن اهتمامى طوال حياتى ولقد شهدت وأنا شاب جامعى أخبار محاكمة «سيد قطب» ثم إعدامه، وأيقنت أن الدماء التى جرى سفكها مع حكومات ما بعد 1952 ستولد مزيداً من العنف الذى لن ينتهى بسهولة إلى أن جاء الرئيس الراحل «أنور السادات»، وحاول أن يفتح حواراً متصلاً مع الجماعة، ولعل أبرز عبارة فيه قد جاءت عندما قال «السادات» لمرشد الإخوان الراحل «عمر التلمسانى» (اسحب شكواك يا عمر) بعد أن أعلن المرشد أنه سوف يشكو أمره وأمر جماعته إلى الله سبحانه وتعالى، وأنا لا أنكر بهذه المناسبة أن نظام الرئيس السابق «مبارك» قد ضيّق على الجماعة بشكل متواصل، فبدا الأمر كأنه عجيبٌ فأبواب البرلمان مفتوحة لبعضهم وأبواب السجون مفتوحة لمعظمهم! ويهمنى هنا أن أسجل الحقائق الآتية:
أولاً: عندما كنت سكرتيراً لرئيس الجمهورية لشؤون المعلومات والمتابعة فى ثمانينيات القرن الماضى تصورت وهماً أننى أستطيع أن أبنى جسوراً بين الرئيس والقوى السياسية المختلفة واستقبلت فى مكتبى الصغير بمبنى سكرتارية الرئيس فى «منشية البكري» رموزاً من ألوان الطيف السياسى ومازلت أتذكر الأخوين العزيزين الأستاذ «سيف الإسلام حسن البنا» والدكتور «عصام العريان» ولقاءاتى بهما وحواراتى معهما ورسائل الجماعة التى نقلتها إلى الرئيس فى تلك الفترة، ومازلت أتذكر أيضاً أن الأستاذ «سيف الإسلام البنا» طالبنى وقتها بأن أنقل رغبة الجماعة فى أن تتخلى الدولة عن ملكية دور السينما ومعاصر «النبيذ» فى «جناكليس» ومصانع «البيرة» أيضاً، وتصورت وقتها أننى أستطيع أن أخلق جسوراً بين الرئيس الجديد نسبياً وجماعة «الإخوان المسلمين» بتاريخها الطويل ولكن النظرة الأمنية التى كان يعانى منها النظام قد أحاطت تلك المحاولة بالتشكيك والتسفيه والرفض.
ثانياً: اتصل بى ذات يوم عام 2006 الصديق العزيز الأستاذ «سيف الإسلام البنا» محتجاً على رفض السماح له بالسفر إلى «الأردن» للمشاركة فى مئوية والده الإمام الشهيد «حسن البنا»، وحاولت يومها مع جهاز «أمن الدولة» ولكننى لم أفلح، وسافر غيره من أعضاء الجماعة إلا هو خشية استغلاله كرمز للتشهير بما يجرى تجاه الجماعة فى «مصر»، كما طلب منى التدخل فى شأنٍ يختص بقريبة له جرى منعها من السفر للحصول على الدكتوراة من الخارج، ولكننى نجحت هذه المرة وتحقق لذلك الرجل الفاضل ما أراد.
ثالثاً: عندما توليت رئاسة لجنة «العلاقات الخارجية» فى «مجلس الشعب» لعدة سنوات- ومن قبيل الموضوعية والتجرد والعدالة- كنت أعطى زملائى من «جماعة الإخوان» فرصة إبداء الرأى بشكل كامل وقدمتهم للوفود الأجنبية ليشرحوا ظروف معاناتهم دون مواربة أو تحفظ، وهم شهود على ذلك ويمكن الرجوع إليهم فيما أقول، ولقد انتقدنى بعض زملائى واعتبروا ذلك رد فعل لمن يرى على رأسه بطحة «انتخابات دمنهور»، ولم يكن الأمر كذلك فقد أزال تقرير «محكمة النقض» آثار تلك «البطحة» قانونياً ولكن آثارها السياسية ظلت تلاحقنى واعتذرت عنها علناً عدة مرات رغم أنه لم يكن لى خيار فيها، ومع ذلك يصر بعض خصومى على تجاوز حدود النقد إلى التجريح الذى أستطيع أن أرد عليه ولكننى أترفع عن ذلك.
رابعاً: لقد أسعدنى فضيلة الأستاذ «محمد مهدى عاكف» مرشد الإخوان السابق باتصالات متفرقة عبر السنوات الأخيرة يعلق فيها على بعض مقالاتى ويختلف مع بعض آرائى ولكنه يقدر وجهة نظرى حتى فى غضون أيام الثورة الرائعة التى بدأت فى 25 يناير 2011، كما أسعدتنى دعوة المرشد العام «د.محمد بديع» لحضور بعض احتفالات الجماعة ولقاءاتها الفكرية لأنهم يدركون أننى أقول دائماً– قبل الثورة وبعدها– إننى مختلف معهم فكرياً ولكننى شديد الالتزام بحقهم فى أن يكونوا جزءاً من العمل الوطنى والسياسى فى البلاد لأنهم مصريون قبل أى شىء.
خامساً: حرصت على العزاء فى رحيل المرشد العام الأسبق المستشار «مأمون الهضيبى» لأننى أتذكر أنه كان ذات يوم فى اجتماع عام- ضمن مجموعة من السياسيين وقبل أن يكون مرشداً- وعندما تقدمت منه وذكر له اسمى انتفض واقفاً وقال هذا رجل صادق أحترمه، واعتبرت ذلك نيشانًا على صدرى وبرهاناً على أمانتى فى عملى، كذلك فإنه والد لصديق عزيز هو الأستاذ الدكتور «خالد الهضيبى» بطب عين شمس وهو من أعتز به أنا وأسرتى على الدوام.
.. هذه قراءة عاجلة لرؤيتى لهذه الجماعة التى تدخل عامها الثالث والثمانين بخبراتها التنظيمية وصراعاتها السياسية وقدراتها الفكرية وتندمج لأول مرة فى الحياة السياسية بشكلٍ كامل وعلنى، وإذا كنت أخشى من ظهور بعض ملامح الدولة الدينية إلا أننى أستمع باهتمامٍ إلى حديثهم عن الدولة المدنية وقيام حزبهم الجديد «الحرية والعدالة» لكى يكون جناحاً سياسياً بحتاً لتلك الجماعة الدينية ذات التاريخ الدعوى الطويل.. إننى أتطلع إلى المستقبل وأتمنى لهم ذات يوم أن يقتربوا من النموذج التركى بكل ما له وما عليه، فالإسلام لهم ولنا ولكن الحكم رهينٌ بصندوق الانتخاب، فالإرادة الوطنية هى الفيصل أولاً وأخيراً.
جريدة المصري اليوم
24 مارس 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/205350