أحدثت «الثورة الشعبية المصرية» دويًا هائلاً فى العالم كله وحققت نقلة نوعية لصورة مصر فى الخارج وأعادت ثقة أبنائها بها واعتزازهم بمكانتها وفخرهم بالانتماء لها، وهذه ليست تعبيرات إنشائية مطاطة لكنها توصيف دقيق لواقع الحال فى الأسابيع الأخيرة، فعنصر «الإرادة» يبدو جلياً فى إصرار الثوار على مطالبهم وحماية القوات المسلحة لتلك الثورة الوليدة إيماناً منهم بأنها جزء لا يتجزأ من نسيج هذا الوطن العظيم، ويجب أن أعترف هنا بأن «الثورة الشعبية المصرية» قد قلبت موازين التفكير لدى كل خبراء دراسة التاريخ المصرى الحديث، فلقد توهم معظمنا أن ذلك الشعب مغلوب على أمره، مقهورٌ عبر السنين، لا يثور بسهولة ويأتيه «التغيير» من داخل النظم أحيانًا أو من الجيش المصرى غالبًا، لكن المفاجأة هى أن «الشارع المصرى» قد تقدم على الجميع وطرح أسلوبًا مبتكرًا فى إسقاط النظم، يبدو مزيجًا من الانتفاضة الشعبية والعصيان المدنى معًا، والغريب أن تلك الثورة الفريدة قد اجتاحت البلاد فى وقت واحد وسرت بين أنحائها كالنار فى الهشيم، وكأن هناك كلمة سر قد جرى تداولها ففتحت أبواب الجحيم على كل سوءات الماضى، الذى لم نكن نعرف أن حجم فساده بهذه الصورة التى تتضح يومًا بعد يوم، وتجسدت الإرادة المصرية ربما لأول مرة فى تاريخنا المعاصر، لكى تقدم نموذجًا مختلفًا لمعدن «الشخصية المصرية»، بعد أن نفضت عنه غبار قرون التبعية والانزواء وقبول الأمر الواقع مهما كانت مرارته، لقد تصورنا لسنوات طويلة أن قدر هذا الوطن محكوم دائمًا بإرادة «الفرعون» وسلطة «الطاغية» يخيفه غضب «السلطان» وتهمِّشه أجهزة الحكومة، ولا يبالى من يملكون فيه بمن لا يملكون! ولابد أن أعترف هنا بأننى أشعر بشىءٍ من القصور، لأننى توهمت ذات يوم أن الإصلاح يمكن أن يأتى من داخل نظامٍ استشرى الفساد فى عظامه ودبت الشيخوخة فى أوصاله وأرانى أنا ومعظم أبناء جيلى مدينين باعتذارٍ لشباب مصر، الذين استطاعوا بالتقنية الحديثة وتكنولوجيا المعلومات أن يتجمعوا ولو بغير قيادة، وأن يحتشدوا ولو دون زعيم، فالتقت إرادة أبناء الشعب المصرى بشكلٍ غير مسبوق لدعم «الثورة» وتحية شهدائها واحترام شبابها، ولم نعد نعرف مواطنًا من آخر إلا بالوقوف الصلب على أرضية وطنية راسخة، ولقد ذهبت «السكرة»، واستقرت لدينا «نشوة» الفرح، وجاء وقت «الفكرة» ولحظة تحويل «الإرادة الوطنية» إلى «رؤية عصرية للدولة المصرية».
فما أكثر ما تحدثنا وما أروع ما تغنينا وما أشد خصومات تصفية الحسابات وما أكثر صيحات ادعاء البطولة وتسجيل المواقف، لكن الأهم من ذلك كله هو أن يفكر الجميع فى مستقبل هذا الوطن المثخن بجراح الفساد الذى مضى وآلام مخاض الميلاد الجديد، ولن يتحقق ذلك بغير رؤية طويلة المدى لا تعرف الأفكار الجزئية ولا تغرق فى التفاصيل اليومية، لكنها تمتد عبر الأفق لترى «مصر» بعد عقدٍ ثم بعد عقدين ثم ما يليهما من عقود قادمة.
فلقد تمكن أصدقاؤنا الهنود، على سبيل المثال فى مطلع الخمسينيات من القرن الماضى، من أن يضعوا خطة طويلة المدى وأن يتفقوا على تصور شامل لمستقبل الأمة الهندية، ولقد حققوا فى هذا الشأن نجاحاتٍ باهرة، ليس أولها الاكتفاء الذاتى من الحبوب الغذائية وإنشاء قاعدة صناعية ثقيلة، وليس آخرها أن تكون «الهند» دولة فضاءٍ ودولة نووية وصاحبة أضخم تجربة ديمقراطية على وجه الأرض فى ذات الوقت، والمؤسف أننا كنّا معهم على خطٍ واحد فى سباق التقدم التكنولوجى، عند مطلع ستينيات القرن الماضى ولكنهم انطلقوا وتوقفنا، وتقدموا وتخلفنا، وقد آن الأوان لكى نحيل الإرادة الوطنية التى تجتاح «مصر» إلى «خارطة طريق» تقوم على العلم الحديث والتكنولوجيا المعاصرة، وتسعى للتوظيف الأمثل لكل موارد «مصر» البشرية والطبيعية، وأن نحيل الماضى برمته إلى «السلطة القضائية» تحاسبه وتعاقبه، حتى لا تنصرف جهود الشعب إلى محاكمة الماضى فقط دون بناء المستقبل الذى هو أجدى وأهم من العويل على الأطلال والبكاء على اللبن المسكوب والاستغراق فى جدلٍ عقيم، بينما الدنيا تجرى حولنا والعالم ينظر إلينا.. إننا لا نريد أيها السادة للمستقبل أن يفلت من بين أيدينا.
جريدة المصري اليوم
3 مارس 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/203603