هو أول رئيس لى فى عملى بالحكومة المصرية، إنه السفير «جمال منصور»، الذى كان مديراً لإدارة «غرب أوروبا» عندما ألحقت بالعمل فيها فى النصف الثانى من ستينيات القرن الماضى، وكان «جمال منصور» يومها ملء السمع والبصر، فهو واحد من الضباط الأحرار كما كان قريباً بالصداقة والزمالة فى مرحلة معينة من البكباشى «جمال عبدالناصر» القائد الفعلى لتنظيم «الضباط الأحرار»، بل إنه أقرضه ذات يومٍ نقوداً لسد حاجة معينة تتصل باحتياجات التنظيم، وعندما عملت تحت رئاسته كان عائداً لتوه من الإشراف على قسم رعاية المصالح المصرية فى «بون» «بألمانيا الغربية» بعد أن قطعت مصر العلاقات الدبلوماسية معها، ويومها ظهرت صورة «جمال منصور» فى أول صفحة «بالأهرام»، وهو يغادر مقر البعثة فى عاصمة «ألمانيا الغربية»، وقد كان استقبال «إدارة غرب أوروبا» لى متحفظاً، ولا يخلو من بعض الفتور، لأننى كنت معيناً بقرار جمهورى من «الرئيس عبدالناصر»، ولم أكن قد التحقت بمعهد الدراسات الدبلوماسية بعد، ولكننى أعترف بأن السفير «جمال منصور» كان مختلفاً فقد كان ترحيبه بى واضحاً، وكلفنى بأن أكون «سكرتير أمن الإدارة»، وهى الوظيفة الدنيا فى التنظيم الهرمى لإدارات الخارجية، لذلك كنت فى تعامل يومى مستمر معه، وأقرب ما أكون إلى مهمة السكرتير الدبلوماسى له، وقد كان رجلاً هادئا مهيباً، راقياً رقيقاً، محبوباً ومحترماً بدرجة واضحة، وله مكانة يعترف بها الجميع، بالإضافة إلى حسن المظهر وبهاء الطلعة، وكانت الإدارة تضم أقساماً جغرافية مختلفة فجرى إلحاقى بقسم «بريطانيا» تحت رئاسة المستشار «محمد الخازندار» - رحمه الله - وهو ابن المستشار «الخازندار»، الذى اغتالته جماعة «الإخوان المسلمين» غدراً أمام منزله فى «المعادى»، ولقد أبدى السفير «جمال منصور» فى مناسبات مختلفة إعجابه بقدراتى الوظيفية والعلمية، وقال لزميلتى الراحلة «هدى المراسى» ذات يوم لقد ظلموا هذا الشاب بالتعيين من خلال قرارٍ جمهورى، لأنه كان قادراً على اجتياز الامتحان بجدارة، ويعتبر السفير «جمال منصور»، الذى أنهى خدمته الدبلوماسية مشرفاً على مكتبى وزير الخارجية ووزير الدولة للشؤون الخارجية فى مطلع ثمانينيات القرن الماضى، من أكثر السفراء فى تاريخ الدبلوماسية المصرية الذين تبوأوا مواقع فى الخارج، فقد كان قنصلاً عاماً فى «تريستا» بإيطاليا، ثم قائماً بالأعمال فى «باريس»، ثم رئيساً لقسم رعاية المصالح فى «بون»، ثم كان سفيراً مقيماً فى الدول الآتية: «يوغسلافيا» و«قبرص» و«سوريا» و«تايلاند» و«الكونغو».
أقول ذلك دون ترتيب زمنى، لأن الذاكرة لا تسعفنى بذلك، فأنا لا أكتب من مذكرات مسجلة، ولكننى أفتش فى ذاكرةٍ بدأت تتراجع فى السنوات الأخيرة! إن «جمال منصور» يعتبر نموذجاً رفيعاً للدبلوماسى المتوازن، ولقد جرت حادثة غامضة حاول فيها وزير الخارجية الأسبق السيد «محمود رياض» إقصاء السفير «جمال منصور» من الخارجية، ولكن أعضاء السلك الدبلوماسى تكتلوا بشكل ملحوظ داعمين السفير «جمال منصور» ضد ذلك القرار المفاجئ، وكان يتزعمهم دبلوماسى لامع يجيد الحديث والحوار بدرجة لافتة وهو المستشار – حينذاك – «محيى بسيونى» حتى عدل وزير الخارجية عن قراره الجائر وغير المبرر، ولا تزال دوافع ذلك القرار مبهمة حتى اليوم.
ولا أظن أن السفير «جمال منصور» قد وجه لى لوماً إلا مرة واحدة عندما استدعانى فى مكتبه، وكان لديه السفير الراحل «محمد حافظ إسماعيل»، وطلب منى وثيقة معينة موجودة بأرشيف الإدارة، فأحضرت له الملف بالكامل عندئذٍ أبدى السفير «جمال منصور» امتعاضه، وقال لى إن مهمتك فى بداية حياتك هى أن تأتينى بالوثيقة المطلوبة تحديداً دون غيرها، وليس بالملف الكامل الذى يحتويها حتى إن كان تصرفك من قبيل الحيطة.
ولقد تواصلت العلاقة بينى وبين السفير «جمال منصور» والسيدة الفاضلة قرينته ذات النشاط الاجتماعى الواسع، وعرفت فيهما نموذجاً للحياة الهادئة والاحترام المتبادل، وظل ذلك الرجل العظيم – وهو بالمناسبة خال الوزير المتميز «عصام شرف»، وزير النقل الأسبق – على تواصل معى.
يتحفنى بين الحين والآخر ببعض كتاباته خصوصاً مذكراته، التى تعتبر نموذجاً فريداً فى التأريخ لبعض المراحل المبكرة من ثورة يوليو 1952 كما كان يعلق على بعض مقالاتى من وقتٍ لآخر، ولفتت نظرى دائماً ذاكرته القوية، وعقليته المتقدة فى سنوات عمره المتقدمة، فرغم شيخوخته فإنه ظل فاعلاً ونشيطاً ومؤثراً إلى أن رحل عن عالمنا فجأة ليهوى واحد من النجوم اللامعة من سماء الدبلوماسية المصرية الساطعة.
جريدة المصري اليوم
20 يناير 2011
https://www.almasryalyoum.com/news/details/51325