إن الذين عرفوا دهاليز السياسة وكواليس الدبلوماسية ومنصات العمل العام يدركون أن الأمر ليس بالبساطة التى يتصورونها بل إن الجزء المختفى تحت الماء من جبل الجليد أكبر بكثير مما يراه الناس، فالعمل العام - سياسيًا أو ثقافيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا - يتطلب من صاحبه أن يمتلك جلدًا سميكًا يسمح له بالمناورة والمغامرة والقدرة الاستثنائية على التعبير السليم فى الوقت المناسب، كما أنها تحتاج إلى إعداد شخصى يقوم به الفرد الذى نقول عنه إنه (تعب على نفسه) فسلحها بملكات فكرية ودراسات أكاديمية وقدرات شخصية وكفاءات عصرية، إذ أنه لا يوجد من يوزع صكوك العرفان على إنسان دون إنسان، فالمسألة تعليم وتدريب وقدرة على استشراف المستقبل مع الملاحظة الواعية لكل ما يدور حولنا من بيئة ثقافية ومناخ سياسى وتربة تنبت منها الأفكار الرائدة والمبادرات الخلاقة، إننى أقول ذلك وقد لاحظت فى السنوات الأخيرة أن العمل العام فى مصر قد أفرز عددًا لا بأس به من ذوى القدرات المحدودة والكفاءات الناقصة حتى اختلط الحابل بالنابل ولم نعد ندرك أين هؤلاء وأين أولئك، بل إن هيئاتنا التقليدية قد اعتراها شيء من ذلك أيضًا، ولقد كتبت من قبل عن تلك المحنة التى تتعرض لها بعض مؤسسات الدولة وأشعر أحيانًا بمحاولات متعمدة لتقزيم بعض تلك المؤسسات واختزالها فى أفراد بعينهم بينما المؤسسة هى الأصل والأفراد إلى زوال، وإذا كنا نمضى فى رحلة شاقة نحو بناء دعائم الوطن وتشييد ملامح رفعته فإن الأمر يقتضى من هذه المؤسسات مراجعة حالها وما آل إليه الأمر فيها وأنا لا أريد أن أسمى لكثرة ما أرى بل إننى أدعو إلى نشر روح التفاؤل ومقاومة فيضان الإحباط الذى يجرف أمامه رؤية ما هو قائم، وليسمح لى القارئ أن أسجل فى صراحة وأمانة الملاحظات الآتية:
أولًا: إن معايير تصعيد الكفاءات فى كثير من المرافق ليست بالضرورة هى الأفضل بل لقد شهدنا منذ عدة عقود تراجعًا واضحًا يعطى دفعة لنموذج ليس هو بالضرورة الأوفق أو الأنسب، ولقد أصدرت كتابًا منذ قرابة خمسة عشر عامًا كان عنوانه (الرهان على الحصان) لأننى أردت أن أقول لكل من يريد أن يتأكد من صدق تحليلنا من أننا لا نختار أحيانًا الجياد العربية الأصيلة، ولكننا قد نختار الحيوانات الهزيلة والتى لا تعرف الرؤية الواسعة وتتميز بالغباء أحيانًا، فالحصان حيوان رشيق يرفض أن يمتطيه غير فارسه ويحتاج إلى حفنة من السكر لترضيته إن أجاد ويدرك الخطأ إن أساء، فالذكاء واحد من خصائصه، دعونا نبحث عن هذا النموذج فى حياتنا المؤسسية ومرافقنا المختلفة مع الفارق بالطبع بين عالم الإنسان وعالم الحيوان ولكنها أصداء (كليلة ودمنة) التى فرضت علينا هذا النمط من المقارنة، وذلك النوع من التفكير.
ثانيًا: إن الشخصية المؤسسة على ركائز علمية حقيقية وأعمدة صلبة من المعرفة أفقيًا فى معظم المجالات ورأسيًا فى تخصص بعينه هى تلك القادرة على المضى فى بحر متلاطم من الرؤى والأفكار التى لا نستطيع أن نتجاهل وجودها أو نتجاوز تأثيرها (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ).
ثالثًا: إن صراعًا مكتوًما بين الأجيال يمارس تأثيره أحيانًا، حيث نشعر من وقت لآخر أن هناك من يدفع بالشباب إلى الأمام فنستريح ثم نرى أن بعضهم دون المستوى فنقلق، وقيمة كل جيل هى فى الجيل التالى له فهناك جيل يبنى وجيل يجنى والعمل العام ليس نزهة ولكنه طريق صعب على من يريد ارتياده بكفاءة واقتدار أن يتسلح بالعمل وأن يضرب بسهم فى المعارف المختلفة وأن يكون عصريًا يدرك أهمية العلوم الحديثة ويعلم أن العشوائية انتحار وأن جدولة الذهن وإعمال فقه الأولويات هى أمور لازمة لمستقبل أفضل للفرد والجماعة.
رابعًا: إن مؤسساتنا الكبرى - تشريعية وتنفيذية وقضائية - مازالت بخير فى مجملها ولكنها تواجه مصاعب كامنة تدعو إلى إعادة النظر فى كثير مما نفعل وعديد مما نختار، فالأزهر الشريف - حصن الأمة عبر تاريخها الطويل والذى مازال شامخًا بشيخه وجامعه وجامعته - تثير أحيانًا عناصر فيه ما يدعو إلى التأمل والمتابعة، بل إن المجمع اللغوى الذى ضم الآباء العظام أحمد لطفى السيد، وطه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم وإبراهيم بيومى مدكور وهو فيه أيضًا ما يثير الاهتمام ويدعو إلى الترقب، كما أن مدرسة الرى المصرية تمضى فى طريقها الذى رسمته عبر تاريخها الطويل مدعومة برؤية سياسية تسبق المعايير الفنية إلا أن الدنيا تغيرت ولم تعد إفريقيا اليوم هى إفريقيا الأمس ولا حوض النهر هو ذلك الذى عرفناه عبر القرون، ولحسن الحظ فإن المعالجة الهادئة لهذا الأمر قد تؤدى إلى نتائج أفضل رغم كل التحديات والمكائد والمصاعب والمؤامرات.
خامسًا: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، إن هذه الآية الكريمة تصْدق علينا نحن المصريين أكثر من غيرنا، فنحن شعب لا ينقصه الذكاء، وأمة لا تعوزها المهارة، ودولة تطل على بحرين مفتوحين وفيها قناة السويس والأهرام وأبو الهول والمعابد الشامخة فى الجنوب حتى أن إحدى مدننا وهى (الأقصر) تكاد تضم خمس التراث العالمى كما يردد خبراء اليونسكو، إنها دولة أم كلثوم وعبد الوهاب وأحمد شوقى وحافظ إبراهيم، دولة القوى الناعمة ومصدرة الأفكار الكبرى للمنطقة، فحتى الإسلام السياسى - بما له وما عليه - هو إنتاج مصرى تم تصديره للأمة الإسلامية وكانت له نتائجه التى نعرفها، فبلد لديه كل هذا عصى على الانهيار مستحيل له السقوط.
إنها خواطر لمن يتصدون للعمل العام فى وطن من أعظم الأوطان، وبلد لابد أن ينهض وأن يحلق، فالكنانة محروسة دائمًا!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/685106.aspx