كنت أتجول فى يوم سبت داخل أرجاء محل (هارودز) الشهير بـ(لندن)، وفوجئت وأنا أمر بقسم المفروشات بالفنان الراحل (عبدالحليم حافظ) يُسرع نحوى متهللاً ومصافحًا بشدة قائلاً لسكرتيرته التى كانت ترافقه وهى السيدة الفاضلة (سهير على): ألم أقل لكِ إننى أريد أن أرى (مصطفى الفقى) و(محمد أنيس) (صديق عزيز مشترك وزميل لى فى السفارة فى منتصف سبعينيات القرن الماضى)، فقالت له: نعم هذا صحيح، وها هى الصدفة تجعلك تلتقى بأصدقائك! وكنت قد تعرفت على (عبدالحليم حافظ) قبل ذلك بسنوات من خلال صديقة فاضلة هى السيدة (عنايات) شقيقة الراحل (وجدى الحكيم)، وكان (عبدالحليم) يشترى يومها أطقمًا من ملايات الأسرة وفرش الحجرات لشقته فى منطقة (سانت جونز وود) فى (لندن)،
كان عبدالحليم يشترى يومها أطقمًا من ملايات الأسرَّة وفرش الحجرات لشقته بلندن
وقال لى وقتها: إنه يريدنى فى مشورة هامة، فجلسنا معًا على مقعدين متجاورين فى بهو المتجر الكبير، وحكى لى أن هناك طبيبًا شهيرًا فى (المملكة المتحدة) اقترح عليه أن يجرى له عملية جراحية توقف نزيف دوالى المرىء لمدة خمس سنوات على الأقل بدلاً من القيام بعملية الحقن سنويًا كما يحدث له كل عام، وأن أمامه خيارين؛ فإما أن يقبل بإجراء هذه الجراحة كمخاطرة محسوبة ويستريح من الكى والحقن السنوى، أو يبقى على ما هو عليه بدلاً من إجراء جراحة لا يعلم نتائجها إلا الله مهما كانت الاحتياطات ومهما بلغت درجة الاهتمام بالعندليب الأسمر، وأتذكر جيدًا أننى قلت له يومها: إننى لا أتحمس للمغامرة الجراحية الكبيرة، وذكرته بالمثل المصرى (إمشى سنة ولا تخطى قناة) وأن القليل المضمون خير من الكثير المحتمل، وقد ردَّ (عبدالحليم حافظ) بأنه سوف يفكر فى الأمر خلال الأيام المقبلة، قبل أن يُقدم على هذه العملية الجراحية الكبيرة، وقد اتصلت بى بعد ذلك بأيام قليلة السيدة (سهير على) سكرتيرة مطرب العرب الأول، لكى تُخبرنى بأنها سوف تُسافر فى رحلة عاجلة إلى (هولندا) وتعود فى نفس اليوم لاستحضار دواء عاجل مطلوب لفترة ما بعد جراحة (عبدالحليم) الذى دخل بالفعل إلى غرفة العمليات بعد أن رجحت لديه فكرة المغامرة حتى يستريح من عناء الجراحة البسيطة كل عام، وشاء القدر أن تتصل بى باكيةً بعدها بساعات قليلة لتخبرنى أن الفنان الصديق (عبدالحليم حافظ) قد لفظ أنفاسه الأخيرة بين يدى الجراح الكبير وفشلت كل محاولات إنقاذ حياته، وساعتها قطع التلفزيون البريطانى الإرسال ليضع على الشاشة نبأً عاجلاً.. أن أشهر مطرب فى العالم العربى قد رحل عن عالمنا منذ دقائق.. وإذا بالسيارات والتاكسيات تتقاطر على المستشفى، ونذهب جميعًا لتلقِّى الصدمة التى لم يتوقعها أحدٌ، رغم علم الجميع بمرضه الطويل. وعندما بلغ الخبر (مصر) اهتزَّت مشاعر الأجيال، وشعر كل فرد فى العالم العربى أن جزءًا من تاريخه الشخصى وإحساسه العاطفى قد رحل إلى حيث لا يعود الناس، وأرسل الملك (الحسن الثانى) ملك (المغرب) طائرته الخاصة لنقل جثمان مطربه المفضَّل، الذى شدا أعذب الأغانى للعرش المغربى وشعبه الشقيق، كما أرسل الأمير (بدر بن عبدالعزيز آل سعود) طائرة خاصة أخرى لتكون تحت الأمر لنقل الجثمان، واتصلت بى الصديقة (عنايات الحكيم) مُحتجّة بعنفٍ، وطالبةً منِّى التدخل لدى السفارة والقنصلية العامة لكى يكون نقل الجثمان على الطائرة المصرية وملفوفًا بعلم (مصر)، وهذا ما حدث تلبيةً لمشاعر الآلاف من المصريين فى العاصمة البريطانية، وطُويت بذلك صفحة واحد من أشهر مطربى العرب وأكثرهم تأثيرًا فى الأجيال المُتعاقبة حتى لقَّبه البعض بـ(العندليب)، ولقّبه البعض الآخر بـ(مُطرب الثورة)، وقد انتحرت فتاة أو أكثر أثناء تشييع جثمانه وبكاه الشباب والعشاق وكل من ارتبط عاطفيًا بذلك الفنان الذى توزعت حياته بين ملجأ الأيتام ومحنة المرض وأيضًا سنوات الشهرة والمجد حتى طُويت صفحته، وأنا شخصيًا مازلت أتذكر لقاءاتى معه أنا وزميلى فى السفارة (محمد أنيس) وكيف كان ودودًا يطل من عينيه حزن دفين وتظهر على طلته مسحة الشجن التى لم تفارقه أبدًا!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 213
تاريخ النشر: 16 فبراير 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%a3%d9%8a%d8%a7%d9%85-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%84%d9%8a%d9%85-%d8%ad%d8%a7%d9%81%d8%b8-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%ae%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d9%81%d9%89-%d9%84%d9%86%d8%af/