طلب منِّى القُنصل العام فى لندن السفير (مُحب السمرة) ذات يومٍ من شهر يوليو 1973، أن أُرافق السيدة (أم كلثوم)، وزوجها (د. حسن الحفناوى) إلى المطار لتوديعها باسم السفير (كمال رفعت)، وكان ذلك يوم (أحد)، ورأيت أن آخذ معى زوجتى وابنتى، التى لا يزيد عمرها على عدة أشهر؛ وذلك حتى نتمكَّن -بعد المطار- من الخروج أُسريًّا ولا نفقد بقية العُطلة الأسبوعية.
كانت تلك قصة لقائى الوحيد مع سيدة الغناء العربى التى شَدَتْ للملوك والرؤساء، وغنَّت لمصر أجمل الألحان.
وذهبتُ فى الصباح إلى (فندق جروفنير) فى (البارك لين) بسيارتى؛ أنا وزوجتى وابنتى، ووراءنا الحاج (واعر) بسيارة السفارة (الجاجور)، ونزلت السيدة (أم كلثوم) من الفندق ومعها زوجها أستاذ الطب الشهير، واتَّجهت القافلة إلى المطار؛ حيث شركة الخطوط الجوية البريطانية –حينذاك- تتَّجه إلى (القاهرة) مباشرةً، وعندما وصلنا إلى ضابط الجوازات سألنى قائلاً: إن السيدة التى معى اسمها ليس مكتوبًا بالكامل فى الجواز الدبلوماسى، والمكتوب فقط هو (أم كلثوم)، فقلت له: إنها أشهر مُطربة فى العالم العربى، فقال لى: ولكنَّ ذلك لا يعنى ألا يكون لها اسم ثلاثى. فسألتها، فقالت: (أم كلثوم محمد البلتاجى)، على ما أتذكَّر. وجاءت (جيهان نخلة)، المصرية من أُمٍّ إنجليزية، والتى كانت تعمل فى الخطوط الجوية البريطانية، وكانت فتاةً ذات جمال رائع، فأخذت السيدة (أم كلثوم) تتحدَّث معها طويلاً، وجرى فتح قاعة الشرف الخاصة بشركة الطيران.
وجلسنا؛ السيدة (أم كلثوم)، و(د. الحفناوى)، وأنا، وزوجتى، وابنتى، والآنسة (جيهان نخلة)، وبادرتنى (أم كلثوم) قائلةً: لماذا لم يكن السفير فى توديعى؟! إن الذى ودَّعنى فى مطار (القاهرة) وأنا قادمةٌ إلى هنا للعلاج كان (د.عبدالقادر حاتم) نائب رئيس الوزراء، فقلتُ لها: إن السيد (كمال رفعت) لا يستقبل أحدًا فى المطار إلا رئيس الجمهورية، أو رئيس الوزراء، أو وزير الخارجية، فلم ترُق لها الإجابة، وأبدت امتعاضًا نقلته إلى القُنصل العام فيما بعد، وهمست فى أذنى السيدة (أم كلثوم) متسائلةً عن أسعار (خراطيش السجائر)، وهل الأرخص من مطار (لندن) أم من الطائرة، أم من مطار (القاهرة)؟ فأجبتها بأن: الأرخص غالبًا هو ما يكون فى الطائرة ذاتها، فقالت لى: إننا نريد أن نشترى كمية من السجائر للأصدقاء!
ولقد كان لقائى بها صادمًا؛ لما رسمه خيالى عنها؛ إذ إن صوتها يُحلِّق بعُشَّاقه -وأنا منهم- إلى عنان السماء، ولقد لاحظت أن تاريخ ميلادها فى جواز سفرها كان أصغر من ذلك الذى نعرفه؛ حيث كنت أعلم أنها من مواليد 1898، وليس 1908، كما كان مسجلاً فى بيانات جواز سفرها الدبلوماسى.
وجدير بالذكر أن (كوكب الشرق)، التى رحلت عن عالمنا بعد لقائى معها بعامين، قد لعبت دورًا هائلاً فى الارتقاء بالطرب العربى والتحليق به فى آفاقٍ لم نكن نعلمها، كذلك فإن المطربة الراحلة كانت تتمتَّع بحسٍّ فنىٍّ رفيعٍ وتذوقٍ خاصٍّ للنثر والشعر؛ لأنها كانت مُحاطةً بعمالقة الأدب والفن من أمثال (أحمد رامى)، و(محمد القصبجى)، و(رياض السنباطى)، كما تجوَّلت فى العواصم العربية تشدو بأحلى أغانيها دعمًا للمجهود الحربى، وإسهامًا فى إزالة آثار العدوان بعد نكسة 1967.
كانت تلك قصة لقائى الوحيد مع سيدة الغناء العربى التى شَدَتْ للملوك والرؤساء، وغنَّت لمصر أجمل الألحان، وتركت تُراثًا للمُحبِّين والعُشَّاق تزداد قيمته مع مرور الزمن. إننى كلما استمعتُ إلى صوتها -وما أكثر ما أفعل- فإنها تردُّنى إلى سنوات الستينيات من القرن الماضى، عندما كنت شابًّا يدرس فى الجامعة ويستمع إلى أغانيها عصر كل يومٍ من إذاعةٍ خاصةٍ لها أطلقها الحرس الجمهورى فى عصر الرئيس الراحل (عبدالناصر).
إنها ظاهرة فنية لا تتكرر، خرجت من القرية الصغيرة إلى آفاق العالم الرَّحبة، فامتلكت القلوب، وسيطرت على وجدان الناس، ومازال شدوُها يُحرِّك الجميع -بمن فيهم الأجيال الجديدة- رحمها الله جزاء ما قدمت لوطنها وأمتها وفنِّها الرفيع بصوتها غير المسبوق فى تاريخ الغناء العربى.
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 214
تاريخ النشر: 25 فبراير 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%aa%d9%88%d8%af%d9%8a%d8%b9-%d8%a3%d9%85-%d9%83%d9%84%d8%ab%d9%88%d9%85-%d9%85%d9%86-%d9%85%d8%b7%d8%a7%d8%b1-%d9%87%d9%8a%d8%ab%d8%b1%d9%88/