ارتبطت في مطلع حياتي الأكاديمية بالتفسير الماركسي للتاريخ وآمنت وقتها أن حركة التطور مرتبطة بصراع الطبقات ثم طويت تلك الصفحة بعد سنوات نتيجة إخفاق المشروع الناصري في ظل التغيرات الضخمة التي جرت دوليا وإقليميا والتي كان من نتائجها ضرب الاتجاه القومي التقدمي وسيطرة المشروع الامبريالي الصهيوني بشكل غير مسبوق.
وها أنا ذا اليوم أعاود القراءة في ملفاتي القديمة وأحاول تطبيق بعض أفكارها علي الانتخابات الرئاسية الأخيرة لأجازف قائلا إن جزءا كبيرا منها هو تعبير عن صراع طبقي مكتوم داخل المجتمع المصري حاليا، فمصر التي تشهد صراع الأجيال وصدام الأفكار تبدو فيها أيضا حالة من الانقسام الطبقي الذي لايمكن تجاهله، وأنا أظن أن جماعة الإخوان المسلمين قد لعبت بذكاء علي هذا الوتر وداعبت مشاعر الفقراء في مصر وما أكثرهم في بلد يقع 40% من سكانه تحت حزام الفقر، لقد أدرك الإخوان أن الفقر قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة لذلك اتجهوا إليهم في محاولة مؤقتة لإرضاء حاجاتهم اليومية ومطالبهم السلعية والخدمية، فالجائع ليس لديه حرية الاختيار ولا يملك ترف المفاضلة لأنه يمضي وراء نداء حاجاته المباشرة فإذا جاءت تلبية هذه الحاجات تحت مظلة الدين الذي يتجذر في قلوب المصريين منذ فجر التاريخ يوم ولد التوحيد مصريا ـ والدنيا تعيش في ظلام وثني بدائي فلا عجب أن تسري مثل هذه الدعوة الناعمة التي تصادف هوي في قلب الشعب المصري وتتسلل إلي أعماقه فتنطلق بالتالي نحو غايات غير قابلة للانتقاد بل هي أيضا عصية علي الرفض، وليسمح لي القارئ أن أبسط ما أجملته في النقاط التالية:
أولا: إن استقراء نتائج الانتخابات الأخيرة في رصدها النهائي توضح أن محافظات الصعيد الفقيرة كانت داعما قويا للرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي وحزبه وجماعته، فالفقراء لا تعنيهم الدولة المدنية ربما ولا الدستور أيضا إنما يعنيهم من يتحدث لغتهم ويغازل مشاعرهم الدينية ويعيش مشكلاتهم الحياتية، فحركة الإخوان المسلمين التي تبلغ من العمر قرابة خمسة وثمانين عاما كانت ولا تزال ذات انتشار واسع في الكفور والنجوع والقري والمراكز والمحافظات ولديها شبكة اتصالات قوية لا يملكها مرشح علي الجانب الآخر لأنه لا يملك العقيدة السهلة التي تصل إلي وجدان المصري البسيط ولا الفكرة الواضحة التي تستقر في عقل الشارع وضميره.
ثانيا: لست أزعم أنه لم يكن هناك أغنياء صوتوا للجماعة والحزب والرئيس وأن هناك فقراء وبسطاء صوتوا للفريق الآخر، فالتقسيم ليس حديا جامعا مانعا ولكنه يوضح بشكل عام مؤشرا طبقيا لا يمكن تجاوزه أو تجاهله فلم يكن كل الأثرياء أو حتي رجال الأعمال أو أبناء الطبقة المتوسطة ضد الجماعة والحزب والرئيس ولم يكونوا جميعا أيضا داعمين للفريق وما يمثله تاريخيا وسياسيا.
ثالثا: لقد تميزت جماعة الإخوان المسلمين ـ عبر مراحل تطورها ـ بقدر من البراجماتية والقدرة المرنة علي التواصل بين أعلي الطبقات وأفقرها في سلاسة ومرونة تنم عن توزيع أدوار لا يخلو من ذكاء ولا يفتقد الفهم الصحيح للتركيبة المصرية المعقدة خصوصا في الثلاثين عاما الأخيرة وما جاءت به وما أدت إليه.
رابعا: إن ثورة 25 يناير 2011 قد منحت الإخوان المسلمين فرصة ذهبية تاريخية عندما أسقطت نظاما كان يطاردهم ويزج بهم في السجون والمعتقلات، ثم فتحت أمامهم أبوابا واسعة للعمل العام الذي نقلهم لأول مرة من مرحلة السياسة إلي مرحلة الحكم، وهذه النقلة النوعية قد ازدان بها قبر الإمام الراحل حسن البنا وتوهجت أضواؤه، فالرجل هو صاحب واحدة من أخطر الحركات السياسية في القرن العشرين كله، كما أن استظلال جماعة الإخوان المسلمين بثورة 25 يناير قد منحهم صكا وطنيا بحكم دورهم في حماية الميدان بعد اليوم الثالث من الثورة التي اندفع بها شباب نقي لم يبق له في النهاية إلا حصاد الهشيم!
خامسا: واهم من ينكر أن في مصر صراع أجيال واضح وصراع طبقات مكتوم وهما يتفاعلان معا لإنتاج شبكة معقدة من العلاقات المتداخلة والتي تفرز في النهاية شرائح جديدة تتميز بالانفلات الأخلاقي الذي يستثمر أيضا حالة الانفلات الأمني بحيث يبدو الشارع المصري في أسوأ أوضاعه خلقا وتنظيما ما لم يأخذ الحكم القائم والرئيس الجديد بيده نحو القيم الوطنية الصحيحة مع ترجمة أمينة لروح الأديان السمحاء.
.. إنني لا أقصد من هذه السطور تأليب الطبقات أو إثارة النعرات أو حتي كشف العورات في حياتنا الفكرية والثقافية المعاصرة، ولكنني أريد أن أقول بوضوح إن مصر لكل أبنائها، لا تستأثر بها طائفة دون غيرها ولا تأخذ منها إلا بقدر عطائها المتجدد وإخلاصها لله والوطن، كما أن الروح الانتقامية لو سادت وسياسة تصفية الحسابات لو استمرت والدوافع الكيدية لو تأصلت فسوف نكون أمام حالة مرضية لا تعبر عن مجتمع سوي ولا شعب سليم الوجدان متوحد الضمير، وسوف يبقي الأمر معلقا ما لم يحسم المصريون بأنفسهم طبيعة القضايا التي تواجههم والمشكلات التي تعترض طريقهم وما لم يتمكنوا بشجاعة من الارتفاع فوق الموقف برمته طلبا لمصالحة وطنية شاملة في ظل القانون السائد بحيث تسعي إلي تضميد الجراح وتطهير ساحة الوطن من الأحقاد والضغائن وغيرها من بقايا الماضي وتركته الثقيلة، فكلما نظرت حولي وجدت أن ما نعانيه هو نتيجة طبيعية لسنوات الفرص الضائعة.
جريدة الاهرام
9 يوليو 2012
http://www.ahram.org.eg/Archive/955/2012/7/9/4/159617.aspx