لا أخفي شعوري بالقلق العميق بسبب مسار الحياة السياسية في مصر خلال الفترة الأخيرة، فقد وصل حزب الإخوان المسلمين إلي الحكم ولا بأس من ذلك إذ أن الفيصل هو صندوق الانتخابات.
ولكن الذي يزعجني حاليا هو إحساسي بحالة الثنائية التي يمر بها الوطن حيث يبدو الاستقطاب واضحا بين التيارات الدينية والاتجاهات المدنية، علي الرغم من أنه يقع تحت المسميين مفردات كثيرة وتعريفات متعددة فإننا نري في ذلك ما يحتاج إلي التفصيل والدراسة، في مصر الثورة يجب أن تتهيأ لمرحلة الانطلاق الحقيقي نحو المستقبل وبناء مشروع النهضة بمعناه الواسع ورؤيته الشاملة وليس من منظور حزبي ضيق ولكن من منظور كامل لا يقبل التجزئة ولا يسمح بالغرق في التفاصيل، إن أمام صانع القرار المصري ملفات صعبة وقضايا معقدة ومسائل شائكة، لذلك فإن التوافق الوطني يبدو مطلبا ملحا يجب أن تسعي إليه جميع الأطراف في هذه الظروف لأن حالة التشرذم التي يعيشها المجتمع المصري وأسلوب التربص المتبادل لن تؤديا إلا لمزيد من تصفية الحسابات والتراشق بالتصريحات وتحويل الساحة الوطنية إلي حالة مزرية من التحزب الذي يصل إلي درجة التعصب، ولنا هنا بعض الملاحظات:
أولا: إن الوفاق الوطني لا يعني ذوبان القضايا الخلافية كما لا يدل علي أن وجهات النظر متطابقة، ولكنه يشير فقط إلي وقوف الجميع علي أرضية وطنية واحدة من أجل غايات مشتركة تسعي لرفعة الوطن وإخراجه من محنته والمضي به نحو رفعته.
ثانيا: إن حالة الاستقطاب الحالية ليست في صالح كل الأطراف لأنها تستهلك الجهد والوقت والمال علي حساب برامج التنمية وخصما من عملية تعميق الديمقراطية لأن الأخيرة تعني احترام الرأي الآخر وصيانة حق الاختلاف شريطة الالتزام بالقضايا الوطنية المشتركة مهما كانت الظروف ومهما بلغت التحديات.
ثالثا: إن أمام المصريين مهمة عاجلة هي بناء وطن مزقته الأحقاد الدفينة وجرفته السياسات المتخلفة والأساليب الحمقاء في الحكم والإدارة فضلا عن شيوع الفساد لعقود طويلة، ولذلك فإن أمامنا مسئولية كبري هي بناء الدولة العصرية الحديثة علي أسس ديمقراطية صحيحة والتمكين لاقتصاد وطني يكفل الحد الأدني من المعيشة المقبولة بالمعايير الدولية فضلا عن تحقيق العدالة الاجتماعية بمعناها المقبول من جميع الطبقات والفئات دون استثناء.
رابعا: إنني مختلف تاريخيا مع فكر جماعة الإخوان المسلمين ولكنني أحترم تماما حقهم في الممارسة السياسية العصرية والحكم بإرادة الشعب وحده، ولقد دافعت عن حقهم طوال سنوات العهد السابق عندما كان يشير إليهم بعض حملة المباخر الآن بعبارة المحظورة أوالمنحلة!، والمقالات موجودة والآراء موثقة لذلك فإنني أطالب جميع القوي الليبرالية بإعطاء الجماعة حقها الديمقراطي في إدارة البلاد علي أن يكون ذلك شراكة مفتوحة لكل المصريين والمصريات من ذوي الخبرات والكفاءات بقيادة الجماعة التي وصلت إلي سدة الحكم بالمعيار الديمقراطي الذي ارتضاه الشعب وقبلته الجماهير، ولذلك فإنني أبدي دهشتي لحالة التنابز والكيدية التي تسود الشارع السياسي وتجعلنا أقرب إلي الهدم العاجز من البناء الناهض.
خامسا: لقد أزعجني كثيرا أن أري تكتلات تهدف إلي إسقاط تحالفات أخري دون الارتكاز إلي قضية وطنية أو مضمون فكري وكأن السعي إلي السلطة هدف في حد ذاته وأن حيازة الحكم هي الغاية الوحيدة أمام القوي السياسية المختلفة وفي غمار ذلك تضيع المصلحة الوطنية العليا بل تهدد الأمن القومي أيضا، ويكفي أن ننظر حولنا لنري حجم المشكلات الداخلية والمخاطر الخارجية التي تطوق الوطن من كل اتجاه.
سادسا: لابد من همسة عتاب لأشقائنا من جماعة الإخوان المسلمين( لقد تغيرتم كثيرا فأنتم في الحكم غيركم قبله) وهذا وضع طبيعي ولكن الأمر المقلق هو كم التصريحات غير المدروسة بل العبارات الاستفزازية أحيانا رغم أنكم أمام فرصة تاريخية لا تأتي كثيرا حيث تسيطرون علي أهم مفاصل الدولة ومؤسساتها المختلفة ولذلك يتعين عليكم أن تكسبوا المواطن المصري بكل طبقاته وفئاته وقطاعاته إذا أردتم الاستمرار في الحكم ومواصلة المسيرة من أجل البرنامج الذي تسعون لتحقيقه واضعين في الاعتبار أن لغة الاستعلاء واستعراض القوة واستفزاز الآخر هي أمور لا تخدم الهدف الوطني ولا الأممي لجماعة عرفت السجون والمعتقلات قبل أن تدخل القصور والاستراحات! لأن من تعرضوا للظلم في تاريخهم يجب ألا يظلموا سواهم إذا ما ابتسمت لهم الدنيا وفتح الله أمامهم طريق الحكم بعد طول انتظار.
سابعا: إنني أظن أن الرئيس مرسي ـ من خلال معرفتي الشخصية المباشرة ـ هو من أكثر عناصر الإخوان تواضعا وصبرا لذلك فإنني أهيب بمعاونيه ورفاق مسيرته أن يتوقفوا عن إحراج الرجل وخلق أسباب التوتر في طريقه علي نحو قد يفقد الجماعة أرضيتها التاريخية، ولقد شعرت من لقاء أخير مع فضيلة المرشد العام بدرجة من السكينة واليقين مع رغبة في إعطاء رئيس الجمهورية فرصته كاملة في الحكم دون ضغوط عليه أو ابتزاز له أو تعويق لقراره الوطني المستقل، ولكن يبدو أمامي أيضا ما يستحق التأمل بمنطق المودة وحدها إذ إن صديقا عزيزا مثل د.عصام العريان ـ وهو بالمناسبة مناضل حقيقي عرف السجون والمعتقلات طوال حياته السياسية ـ وقد عرفته عن قرب سنوات خصوصا عندما كنت أعمل في مؤسسة الرئاسة منذ أكثر من عشرين عاما، ولكن الرجل يبدو حاليا متوترا حاد التصريحات وتلك مفاجأة لي لأنني أحمل لتاريخه تقديرا خاصا وأشعر أنه قد أصبح مجهدا من مسيرة النضال أحيانا وغدر الرفاق أحيانا أخري.
..إنني أتوجه حاليا بكلمات صادقة لكل أشقاء الوطن مطالبا بالتركيز علي سياسات إصلاحية وبرامج تنموية وأفكار غير تقليدية تنتشل الوطن من معاناته وتدفع به نحو آفاق رحبة لأن مصر تستحق أفضل كثيرا مما هي عليه فليس أصدق من بيتين من شعر المتنبي هما:
الأول: نامت نواطير مصر عن ثعالبها.. فقد بشمن وما تفني العناقيد
والثاني: وكم ذا بمصر من المضحكات... ولكنه ضحك كالبكا
جريدة الاهرام
29 اكتوبر 2012
http://www.ahram.org.eg/Archive/1067/2012/10/29/10/179966.aspx