أتاحت لي ظروف عضويتي لمجلس إدارة النادي الثقافي العربي الذي أسسه المفكر العراقي السفير الدكتور قيس العزاوي سفير بلاده لدي جامعة الدول العربية أن أزورـ منذ أيام قليلة ـ تونس.
بداية الربيع العربي ونموذج التقدم الاجتماعي والتطور الثقافي في شمال إفريقيا العربية، وكنت ضمن وفد برئاسة السفير الدكتور العزاوي ومعنا المفكر والناقد المصري الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق، والسفير الدكتور خالد زيادة سفير لبنان في القاهرة، والإعلامي الدولي بالأمم المتحدة الأستاذ محمد الخولي بالإضافة إلي الفنان العربي المرموق نصير شمة، وقد استقبلنا الشيخ راشد الغنوشي في حوار مطول أعقبه غداء حضره معه وزير الخارجية المتزوج بابنة الشيخ، كما التقينا بوزير الداخلية علي هامش ذلك الاجتماع وهو رجل قضي ثمانية عشر عاما في سجن انفرادي في عصر الرئيس بن علي، وفي اليوم التالي استقبلنا رئيس الجمهورية الدكتور منصف المرزوقي في القصر الجمهوري حيث دار بيننا وبينه حوار مطول استكملناه علي مائدة الغداء بدعوة كريمة منه، وبين اجتماعي هاتين الشخصيتين الكبيرتين أتيح لنا أن نري عددا من المثقفين والمفكرين من ذلك البلد الشقيق كما التقينا بوزيرة المرأة وهي سيدة مثقفة كانت أحد رموز المعارضة التونسية في باريس، والواقع أن علاقة الدكتور قيس العزاوي مندوب العراق بالمعارضة التونسية في باريس قد أتاحت لنا كثيرا من التسهيلات في هذه الزيارة لأنه كان جزءا من المعارضة العراقية في العاصمة الفرنسية أيضا بالإضافة إلي أنه كان صاحب مكتبة جعل منها صالونا ثقافيا متوهجا لأفراد الجالية العربية وأصدقائهم الفرنسيين في عاصمة النور، ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:
أولا: إن الأوضاع عموما في تونس أفضل بكثير مما هي عليه في مصر إذ ليس لديهم مشكلاتنا ولا العبء الواقع علي عواتقنا فضلا عن أنه لا يمكن مقارنة مشكلة عشرة ملايين بمن يقتربون من الملايين التسعين، أضيف إلي ذلك أن قرب الساحل التونسي من أوروبا وحيازة اللغة الفرنسية لدي معظم السكان جعلت درجة الانفتاح الفكري والاندماج الثقافي وتفهم روح الغرب ومزاياه أمورا تعطيهم قوة دفع لم تكن متاحة لمصر علي الأقل في العقود الأخيرة، لذلك نلاحظ بسهولة أن مساحة الحريات الشخصية أكبر، وأن حجم التزمت الديني أقل رغم أن لديهم تيارا إسلاميا متأصلا يمزج بين الأصولية والحداثة في تشكيلة رائعة أتمناها لوطني القلق فكريا، المختلف سياسيا، المتراجع ثقافيا!
ثانيا: إن مقابلتنا مع الشيخ راشد الغنوشي قد صححت كثيرا من المفاهيم لدي وأكدت لي أن التزاوج بين ثوابت الإسلام الحنيف وروح العصر أمر ممكن حتي لو اعتنق البعض فكرا سلفيا أوحتي جهاديا، لقد قال لنا الرجل بوضوح إن حركة النهضة الشريك الأساسي في الترويكا الحاكمة قد قبلت بالقانون الذي فرضه الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة منذ عدة عقود والذي يقضي بمنع تعدد الزوجات، وأضاف الرجل أنه يسعي لحماية الدين من السياسة مؤكدا أنه لا تعارض بين العقل والمصلحة العامة في جانب وتعاليم الدين ونواهيه في جانب آخر، كما أيد بوضوح المقولة الشهيرة للرئيس التونسي الحالي د.المنصف المرزوقي عندما قال إنه يحمي المرأة المنتقبة والمحجبة والسافرة بنفس الدرجة ودون تفرقة، إن ذلك تقدم هائل من منظور الإسلام السياسي في دولة بوعزيزي التي كانت منطلق الربيع الأخضر للثورة العربية.
ثالثا: إن لقاءنا مع الرئيس التونسي، وهو مثقف رفيع القدر ومفكر عالي الدرجة، كان مثمرا للغاية، فقد تحدث الرجل عن مشكلات الفترة الانتقالية وأشار إلي ضآلة المشكلات التونسية مقارنة بالعبء المصري ثم عبر في وضوح عن تقديره لزعامة جمال عبد الناصر وارتباطه منذ الطفولة بالحركة الناصرية وكيف أن والده رحمه الله كان يسأله في بداية الخمسينيات عن أسماء أعضاء مجلس قيادة الثورة في مصر اسما اسما ويدعوه إلي الاستماع لإذاعة صوت العرب في فترة المد القومي والحلم العربي، كما لاحظت قبوله للآخر وفهمه للمتغيرات الدولية والإقليمية علي نحو يستحق الإعجاب.
رابعا: إن الملاحظة المشتركة بين الغنوشي والمرزوقي أن كليهما لا يتحمس لفترة بورقيبة فضلا عن ازدرائهما لحكم بن علي الذي اتسم بالفساد والاستبداد بينما تميزت البورقيبية بالشطحات الفكرية والتصرفات الغريبة رغم أنه كان بطل الاستقلال وصاحب النظرية التدرجية في حل المشكلات المختلفة علي المستوي الوطني والقومي، وكان العامل المشترك الثاني هو قبول كل منهما لفكر الآخر وروحه فرغم اختلاف المدارس السياسية والمنطلقات العقائدية فأنهما يحتكمان إلي العقل والحوار قبل النص وسلطة القرار!
خامسا: إن زيارتي لتونس ولقائي بقمم السلطة والفكر فيها جعلتني أشعر أننا في مصر مستغرقون في التفاصيل تائهون في الإجراءات القانونية منغمسون في التصفيات السياسية بينما الأولي والأجدي أن نجتمع علي كلمة سواء وأن نمضي بالوطن علي طريق الإصلاح الحقيقي بدلا من إهدار الوقت في مساجلات لا مبرر لها وتراشق لا فائدة منه وحالة تربص متبادل بين الإسلاميين والليبراليين بينما يجب أن يقف الجميع علي أرضية وطنية مشتركة بدلا من ذلك النزال الغث لبلد يحتاج إلي جهد أبنائه قبل كل شيء.
.. إن زيارتي لذلك البلد الشقيق (تونس الخضراء) قد أعطتني أملا بغير حدود في أن تتمكن مصر من تجاوز عثراتها واقتحام مشكلاتها بالعقل والمنطق والضمير، وكفانا فرصا ضائعة حتي نفكر بأسلوب عصري في الدولة الوطنية الحديثة، ولقد أسعدني كثيرا ما لاحظته من تقدير مشترك لوثيقة الأزهر الشريف وشيخه وعلمائه ودوره التاريخي إلي جانب جامعتهم الإسلامية العريقة الزيتونة وآمنت أن لدينا قوي ناعمة مشتركة يمكن أن تصعد بنا إلي أعلي إذا أحسنا الاختيار ومضينا في الطريق السليم، فالإسلام هو الدين الذي جعل التفكير فريضة ودعا إلي التسامح واحترام الغير والتعايش مع الآخر.. إننا نتطلع إلي يوم نتوقف فيه عن الهدم لنبدأ البناء.. نتوقف فيه عن التجريح لنبدأ إقامة مجتمع العدالة الاجتماعية المفقودة عبر السنين.
جريدة الاهرام
12 نوفمبر 2012
http://www.ahram.org.eg/Archive/1081/2012/11/12/4/182682.aspx