ذات يومٍ شتوىٍّ باردٍّ فى مطلع تسعينيات القرن الماضى تحدَّد موعدٌ للسفير (سيد المصرى) السفير المصرى لدى (المملكة العربية السعودية) -وهو واحد من ألمع سفرائنا حينذاك- لمقابلة الرئيس الأسبق (حسنى مبارك) فى مقر الرئاسة بمبنى (الاتحادية) بـ(مصر الجديدة)، وكان الموعد هو الثانية عشرة ظهرًا، ومن المتعارف عليه أنه إذا كان هناك موعدٌ مع رئيس الجمهورية فإن القادم إلى اللقاء يأتى قبل الموعد بنصف ساعة، أو ربع ساعة على الأقل.
وفى ذلك اليوم لم يصل السفير (سيد المصرى) إلى مقر الرئاسة حتى بلغت الساعة الحادية عشرة وخمسًا وخمسين دقيقة، عندئذٍ بدأ رئيس الديوان (د. زكريا عزمى) يشعر بالقلق، وقال لى: (أليس لديك أوراق سياسية أو دبلوماسية «بوسطة باقية»؟ فإذا كان لديك شىءٌ منذلك فأرجوك أن تدخل للرئيس حتى تشغله بضع دقائق لحين ظهور السفير المصرى لدى السعودية «سيد المصرى»).
أخطاء المراسم فى رئاسة الجمهورية قاتلة وتذهب بصاحبها بعيدًا ليترك العمل فى الحال
وبالفعل، دخلتُ على الرئيس، وبدأتُ أعرض عليه ما لدىَّ وأجيب عن أسئلته فى متابعة عدد من القضايا والمسائل المُعلَّقة حتى بلغت الثانية عشرة والربع، عندئذٍ توقَّف الرئيس فجأةً وقال لى: (أين سفيرنا فى السعودية؟)، فقلت له: (يبدو أنه فى المبنى، وسوف أدعوه للدخول).
وقد كنتُ مُجازفًا فى ذلك، فليس لدىَّ ما يؤكد أنه موجود بالفعل أمام مكتب الرئيس، وخرجت لأرى رئيس الديوان غاضبًا والسفير (سيد المصرى) يصعد السلم لاهثًا، ونحن نسأله: (ما الذى جرى؟ كيف يحدث ذلك؟)، فقال عبارة لا أنساها: (لقد دعانى نداء الله فلبَّيته أولاً)، إذ إنه عندما كان على وشك الدخول إلى مبنى الرئاسة فى (الاتحادية) سمع (أذان الظهر) قبل الموعد المُحدد له مع الرئيس بربع ساعة، فرأى أن يُصلى (الظهر) أولاً فى مسجد (نادى هليوبوليس) المُواجه لبوابة (الاتحادية)، وما إن انتهى من الصلاة حتى هرع مسرعًا إلىموعده، حيث دخل على الرئيس الذى لم يشعر بما حدث، وظن أنه كان موجودًا قبل الموعد، وأن الرئيس هو الذى انشغل بمُراجعة بعض الأوراق التى كانت معى.
وعندما انتهى اللقاء عاتب رئيس الديوان السفير، وقال له: (إننا كدنا نتعرَّض لمشكلة كبيرة لو أدرك الرئيس أنك لست موجودًا فى الموعد المحدد)، فابتسم السفير وقال: (لأنها كانت صلاة الظهر فإن الله قد حمانى من أى مشكلة)، ومازلت كلما قابلت السفير (سيد المصرى) –وهو أخٌ كبيرٌ وعزيزٌ- أقول له: (لقد دعانى نداء الله فلبَّيته أولاً)، ثم نضحك معًا من ذكريات ذلك اليوم.
وما أكثر المقابلات الرئاسية التى حدثت فيها اختلافات فى التوقيت أو خطأ فى الإبلاغ، فذات يوم طلب الرئيس الأسبق (مبارك) أن يحضر إليه السيد (عمرو موسى) وزير الخارجية، فى الثامنة والنصف صباحًا، وجاء الموعد وتجاوزناه بنصف ساعة أو أكثر، ولم يأتِ السيد (عمرو موسى)، رغم أنه مُنضبط فى مواعيده ومُلتزم فى عمله، فبدأ رئيس الديون يسأل السيد (عبدالوهاب السلاوى) أمين الرئاسة المكلف بالإبلاغ، فكان رده أنه اتصل بمنزل السيد (عمرو موسى) وترك له رسالةً مع نجله (حازم) الذى كان لايزال طالبًا فى المرحلة الثانوية، فقال له رئيس الديوان: (إن هذا خطأ كبير؛ فإما أن تتحدث مع الوزير مباشرةً وتبلغه، وإما مع مدير مكتبه فى وزارة الخارجية باعتباره شخصًا مسئولاً، أما أن يتحمل المسئولية ابن الوزير فهذا خارج إطار المُتعارف عليه).
وبالفعل، كان السيد (حازم عمرو موسى) قد نام قبل أن يُبلغ والده بالرسالة، وعندما وصل السيد (عمرو موسى) وأدرك الموقف شعر بأن ما جرى سوف يُطيح بالسيد (عبدالوهاب السلاوى)؛ إذ إن أخطاء المراسم فى رئاسة الجمهورية قاتلة وتذهب بصاحبها بعيدًا ليترك العمل فى الحال. فتحمَّل السيد (عمرو موسى) المسألة، وقال إن الخطأ من جانب ابنه (حازم) حتى يُعفى (عبدالوهاب السلاوى) من تبعة ما جرى، وهكذا نجد أن الأخطاء المراسمية تبدو محفورةً فى ذاكرة من عايشوها؛ لأنها تمسُّ –مباشرةً- ارتباطات رئيس الدولة ومواعيده.. ما أكثر ما شهدنا من قصص مماثلة!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام
تاريخ النشر: 9 مارس 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%85%d8%a7-%d8%aa%d8%a3%d8%ae%d9%91%d9%8e%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%81%d9%8a%d8%b1-%d8%b9%d8%b4%d8%b1%d9%8a%d9%86-%d8%af%d9%82%d9%8a%d9%82%d8%a9-%d8%b9%d9%86-%d9%85%d9%88%d8%b9/