أستأذن في الخروج من محنة الوطن وأزمته السياسية ومشكلاته الاقتصادية ولو لبضع دقائق أتطرق فيها إلي موضوع حيوي قد لا يبتعد كثيرا عن المشهد الذي نعيشه.
أريد أن ألفت النظر إلي مأساة التعليم المصري وتدهوره الملحوظ في العقود الأخيرة علي نحو أدي إلي تراجع الدور الإقليمي المصري الذي اعتمد تاريخيا علي منظومة تصدير الثقافة ونشر التعليم في العالمين العربي والإسلامي، والأخطر من ذلك هو ضياع البحث العلمي نتيجة تراجع العملية التعليمية وانهيار الكثير من مؤسساتها، فالتعليم هو القماشة التي يجري التفصيل منها للبحث العلمي والثقافة بل أيضا لعنصر التشغيل ومواجهة البطالة الصريحة أو المقنعة، إذ إن هذه كلها نتائج طبيعية للنظام التعليمي المتهاوي، الذي كنا نباهي به ونفاخر في القرنين الأخيرين، بل إنني أتذكر عندما هبطت مدينة لندن أول مرة عام1971 أن الطبيب المصري كان يستكمل دراسته العليا هناك دون امتحان معادلة اكتفاء باختبار سريع في اللغة الإنجليزية! بينما كان الطبيب الهندي مجبرا في ذلك الوقت علي الدخول في امتحان معادلة علمية دون اختبار في اللغة الإنجليزية.. هكذا كان حالنا ذات يوم قبل أن نصل إلي هذا المستوي العاجز في نظام تعليمنا الجامعي وما دونه، أقول ذلك بمناسبة الدعوة التي تلقيتها من الدكتور أشرف شعلان، رئيس المركز القومي للبحوث، لإلقاء محاضرة في مؤتمره السنوي، ولقد أسعدني أن وجدت المركز متماسكا في وقت انهارت فيه بعض مؤسسات الدولة المصرية العريقة ووجدت امتدادا ملموسا لإنجازات عصر عبد الناصر حتي إن الوزيرة د.نادية زخاري قد قالت لي في اتصال هاتفي إنها ما طلبت من المركز القومي للبحوث القيام ببحث في موضوع تطلبه ـ باعتبارها المسئولة الأولي عن منظومة البحث العلمي في البلاد ـ إلا ووجدت أن المركز قد بحث فيه من قبل ولديه دراسة جاهزة! ولقد علمت أن العالم الكبير صديقي الدكتور أحمد زويل قد زار هذا المركز منذ فترة واجتمع بإدارته وعلمائه وكنت أتمني عليه أن يجعل منه نواة لمشروعه الكبير في البحث العلمي بحيث يضم إلي جانبه مدينة البحوث العلمية في الإسكندرية( مبارك سابقا) وأكاديمية البحث العلمي وهيئة الطاقة الذرية ومركز أبحاث الفضاء... وغيرها من المؤسسات المعنية بالبحث العلمي في مصر في إطار منظومة واحدة بدلا من الدخول في صراع طويل حول أرض جامعة النيل وما تلاه من انتقادات تجاوزت الحد لتطاول قامة العالم الكبير الذي مضي علي حصوله علي جائزة نوبل قرابة أربعة عشر عاما، ومع ذلك لا نزال في المربع الأول! إذ إنه رغم أن لدينا ذلك العالم الكبير الذي كان يمكن أن يقود مدرسة عالمية للبحث العلمي المصري تدخل مباشرة إلي الجوهر وتعمل في المضمون دون الاستغراق في الشكل واستهلاك الجهد بحثا عن الأراضي والمباني ولدينا منها الكثير، فإن مشكلة البحث العلمي في مصر ليست في الإمكانات كما يزعم الكثيرون، ولكن في حسن إدارة مشروع قومي متكامل يحتوي علماء مصر في الخارج والداخل ـ وما أكثرهم ـ ليشد قاطرة هذا الوطن الجريح نحو آفاق أفضل بكثير مما هو عليه، وأود هنا أن أطرح الملاحظات التالية:
أولا: إنني أعترف بأن الأعوام الثلاثين الماضية وما قبلها تتحمل جزءا كبيرا من تبعات ما نشهده اليوم من تراجع واضح في منظومة البحث العلمي، فلقد أهملنا العقل المصري وقدرته الخلاقة علي ارتياد ذلك المجال الذي نتفوق فيه بشكل ملحوظ إذا خرجنا من حدود الوطن إلي مراكز علمية مبعثرة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا... وغيرها ولكننا نقف في الداخل عاجزين أمام عقبات الروتين والدرجات العلمية والوظائف الحكومية!
ثانيا: إننا بلد يصعب توصيف وضعه إذ إن لدينا حشدا كبيرا من العلماء المعترف بهم دوليا، ولعلي أتذكر كلمة قالها لي الدكتور هانز بليكس، المدير العام الأسبق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، إن مصر مؤهلة قبل غيرها لأن تكون دولة نووية لأن لديها قاعدة علمية هائلة وحشدا من العلماء في كل المجالات وذكرني يومها بالعدد الكبير والمتميز للمفتشين المصريين لدي الوكالة في( فيينا)، والغريب في الأمر أننا بدأنا منذ عدة عقود نتحدث عن مشروع الطاقة الذرية في عصر عبد الناصر علي يد وزير البحث العلمي حينذاك صلاح هدايت ثم تحدثنا عن مشروع وطني للفضاء تحت مسمي الصاروخين القاهر والظافر، كما يكفي أن نتذكر أننا كنا نصنع الطائرة الجمهورية في مشروع مشترك مع الهند، حيث كان العلماء الهنود مختصين بـ جسد الطائرة والمصريون مختصين بالجزء الأكثر تعقيدا وهو صناعة الموتور بما يلحق به من دراسات تتصل بالكهرباء والميكانيكا إلي هذا الحد كنا ذات يوم! وفي مجال الجيولوجيا التي رحل رائدها المصري منذ أيام الدكتور رشدي سعيد كنا متقدمين للغاية في أبحاث مياه النيل وارتياد الصحراء ومازال الدكتور فاروق الباز يحمل الراية في هذا المجال ومعه عدد كبير من العلماء المصريين الذين يتقدمون بمشروعات باهرة في هذا السياق.
ثالثا: إن فرصتنا الوحيدة للخروج مما نحن فيه لن تكون إلا بالتركيز علي البحث العلمي الذي لن يتقدم بدوره إلا باندفاع العملية التعليمية في مصر بصورة غير تقليدية تضعنا في مصاف الدول الكبري، ونحن لا ننسي هنا عبارة مهاتير محمد صانع المعجزة الماليزية عندما قال في البداية: نحن بلد فقير، فلابد أن ننفق كثيرا علي التعليم، فالتعليم في النهاية هو البوابة العصرية نحو المستقبل بكل أبعاده وآفاقه.
.. أحمد الله أيها القارئ أنني خرجت بك من حشود ميدان التحرير واعتصامات الاتحادية والسجال السياسي بين أطراف اللعبة علي المسرح المصري التي تبدو لي أقرب إلي العبث واللغو منها إلي الرؤية الجادة والأفكار الواضحة والمشروعات المستنيرة لوطن يحتاج إلي جهد أبنائه.. كل أبنائه!
جريدة الاهرام
19 فبراير 2013
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/132208.aspx