لا يختلف اثنان علي أن الإرادة السياسية هي قاطرة الشعوب ومحرك التطور، وهي الأساس في اتخاذ القرارات المصيرية واختراق النفق المظلم بحثا عن ضوء النهار مهما طال الانتظار وصولا إلي مهرجان فجر الأمة، ولكن ذلك لا يعني إطلاقا أن التقدم مرهون بالحوار السياسي وحده أو مرتبط بالصراع حول السلطة، أقول ذلك وعيني علي المشهد الراهن في الديار المصرية، فنحن نتحدث سياسة صباح مساء، ونلوك نفس الشعارات ونجتر ذات العبارات بينما مشروع النهضة الحقيقي يكمن في العقل المصري ذاته سواء جري تحقيقه علي يد إخواني أو سلفي أو ليبرالي، فمصر تنتظر الميلاد الجديد مهما تكن الظروف صعبة والأنواء شديدة، فحياة الشعوب وأعمار الأمم لا تقاس بسنوات قليلة ولكن يجب النظر إليها من منظور بعيد يستشرف المستقبل ويري الضوء في نهاية النفق، ولعلي أفصل الآن ما أجملته في هذه المقدمة:
أولا: عندما تتم دعوتي لمؤتمر سياسي وما أكثر ما يحدث ذلك ـ فإنني أكون مترددا، فالكلام معاد والأفكار مبتسرة وقوالب الشعارات تكاد تطيح بالرءوس، إنه صراع علي السلطة تضيع فيه المصالح العليا للبلاد وتهتز هويتها الشامخة التي عرفها بها العالم عبر القرون، ولكن عندما تأتيني الدعوة لمؤتمر علمي أو تجمع لذوي خبرة فإنني أهرع إليهم لاهثا يعودني الشوق إلي الموضوعية وألتمس الطريق إلي صحيح القول، ولقد دعاني مؤخرا الصديق العزيز الوزير السابق الدكتور أحمد زكي بدر للقاء أتطلع إليه بين مجموعة من العلماء في دار ضيافة جامعة عين شمس لعلنا نري الضوء في آخر النفق، ونتحسس الطريق الصحيح من خلال ضباب كثيف حجب الرؤية وغيب الوعي.
ثانيا: إن العلم هو بوابة التقدم والتعليم أداته الأساسية، وأي حديث عن مشروع للنهضة يبدأ من الإيمان بالعلم واحترامه والتركيز عليه لأن العلم هو الذي يصوغ مؤشرات الحداثة في الفكر والفلسفة ويصنع الرؤية لمن يريد أن يتقدم، إن المفكر المصري الكبير سلامة موسي لم يكن واهما عندما وضع يده علي هذه الحقيقة منذ أكثر من ثمانين عاما، كما أن الثقافة هي صانعة السلوك ومحددة الرؤية فلم يكن طه حسين هو الآخر واهما عندما ربط مستقبلها بالعالم المتقدم في شمال المتوسط حين أصدر كتابه الفريد( مستقبل الثقافة في مصر) ولهذا فإنني أطالب ومعي كل من يرجو خيرا لهذا البلد أن يكون العلم هو الطريق الذي نمضي فيه معتمدين علي قاطرة التعليم وتابعها ذلك البحث العلمي المعذب معنا ما بين كاريزما زويل العالم المرموق وما بين جيش العلماء المصريين المطمورين في الجامعات ومراكز البحوث.
ثالثا: دعونا نواجه الحقيقة بصراحة ووضوح، فمشكلات مصر متنوعة ومعقدة ولكننا نستطيع أن نلحظ من بينها ظواهر التخلف الاجتماعي والتراجع الثقافي وضعف البنية التعليمية والنزول بالدين الحنيف من عليائه إلي الشارع بضوضائه! وإحلال الخرافة بديلا للعلم، فضلا عن الشخصانية المستبدة التي تحيل القضايا العامة إلي مواقف ذاتية، وتهدر المصلحة العليا لمصلحة حفنة من ذوي الحظوة أو النفوذ، ولن نتمكن من مواجهة هذه الظواهر السلبية دون الاعتماد علي التفكير الموضوعي والحياد الوطني أمام المشكلات بحيث لا يحكمنا الهوي ولا توجهنا المصالح الشخصية.
رابعا: إنه من المتعين أن نسعي جميعا من أجل رفعة الوطن مهما يكن توجهنا الفكري أو كانت مشاربنا السياسية فالوطن أولي بجهد أبنائه خصوصا أمام الظروف الصعبة وفي الفترات العصيبة التي تصحو فيها الشعوب تراجع ماضيها وتغير حاضرها وتتطلع نحو مستقبلها، إنني شخصيا أريد الخير لهذا الوطن الذي أنتمي إليه وليس يعنيني إذا جاء ذلك الخير علي يد إخواني أو سلفي أو ليبرالي أو يساري أو ناصري ما دمنا نعيش جميعا تحت علم واحد.
خامسا: إن مصر رائدة للسلام وقائدة في الحرب، ولم يقترن تراجع دورها إلا بضعف الرسالة التعليمية والسلعة الثقافية اللتاين يعدان أبرز المقومات للدور التنويري المصري منذ ظهور الدولة المدنية الحديثة حيث مارست الكنانة دورا طبيعيا وطليعيا علي الدوام.
سادسا: إن الصراع السياسي المحتدم يؤرقنا بشدة لأنه يصرف الجهود عن القضايا الأساسية والمشكلات الضخمة التي تقف في طريقنا، وهو يجعل إزاحة كل طرف للطرف الآخر هدفا في حد ذاته بحيث تختفي المصلحة العامة وتتبعثر الجهود وتتشتت السياسات ويضيع مشروع النهضة الذي يجب أن يكون منبثقا من ضمير الشعب في زحام الصراعات وزحام الخلافات، دعونا ننحي الالتزامات العقائدية والانتماءات الفكرية ونقف جميعا علي أرض وطنية مصرية، لأنه لن يكون خلاصنا إلا بذلك ولن تتحقق أحلامنا دونه!
سابعا: إن الدور الإقليمي لمصر بعد ثورة25 يناير يجب أن يستعيد عافيته وأن يسترد تأثيره وأن ندرك مقوماتنا الحقيقية وقدراتنا الفاعلة، فنحن لا نقف فاغري الأفواه أمام تراثنا العريق، كما لا نتحرك مغمضي العينين تجاه مستقبلنا المقبل، إننا بحاجة إلي أن نتحرك علي كل الجبهات; ثورة وإصلاح، ديمقراطية وتنمية، نهضة ورؤية، ولقد حان وقت الإفاقة من مخدر الجراحة الكبيرة التي خضعنا لها بعد ثورة يناير 2011 .
.. إننا إذ نتابع المشهد الذي تمر به البلاد ندرك كم هي معقدة مسالك ودروب الحياة السياسية في ظل ظروف اقتصادية صعبة، وأنا أتذكر الآن مقولة للصديق د. محمد البرادعي جاء فيها( إن الفقر قنبلة موقوتة في مصر) لذلك فإنني أظن أن سياسات مكافحة الفقر وبرامج القضاء عليه هي أولوية ملحة يجب أن نعي قيمتها وأن ندرك مكانتها، من هنا يكون طبيعيا أن يرحب المصريون باللقاءات العلمية ذات النفع المباشر للوطن والمواطن بديلا عن المؤتمرات السياسية التي أضحت صخبا لا ينفع، وضجيجا بلا جدوي!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46180
تاريخ النشر: 14 مايو 2013
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/209862.aspx