ذات صباحٍ فى شهر أغسطس عام 1973 تلقَّيت اتصالاً هاتفيًا من المستشار الطبى المصرى فى لندن الراحل (د. عبدالغفار خلاف)، الذى كان وكيلاً سابقًا لوزارة الصحة، ثم انتُدب فى مهمة الإشراف على علاج المصريين فى (لندن) لمدة عامين، وكنت وقتها سكرتيرًا ثانيًا فى القنصلية العامة، وأحمل لقب نائب القنصل.
وفى ذلك اليوم كان القنصل العام خارج (لندن)، والقنصل فى إجازته السنوية، وكنت أتولَّى أعمالهما فى غيابهما، لذلك كان اتصال (د. خلاف) بى يحمل أمرًا هامًا، قال لى -رحمه الله- بعبارة قصيرة وقاطعة: (إن الفريق «الليثى ناصف» قد سقط من مسكنه فى الدور الحادى عشر فى بناية «ستيوارت تاور»، وإن جثمانه حاليًا فى الشارع يحيط به رجال الشرطة وبعض مندوبى الصحف، وإنه قد فارق الحياة نتيجة سقوطه من شُرفة الشقة التى نُقل إليها منذ يومين فقط من مسكن سابق).
وأضاف (د. خلاف): (لابُدَّ أن تحضر فورًا).. كان مسكنى قريبًا بحى (سان جونز وود)، ولا يبعد عن برج (ستيوارت) إلا دقائق معدودة فقط. وقد وصلت لأجد أن الإسعاف قد حضرت لنقل الجثمان، وأن تجمهرًا كبيرًا يوجد فى المكان، وحاول بعض الصحفيين توجيه أسئلة لى، ولكننى أجبت بأنه من السابق لأوانه أن نقول شيئًا الآن، وقد صعد رجال (اسكوتلانديارد) إلى الشقة فوجدوها مغلقةً من الداخل، فدقُّوا الجرس، فخرجت السيدة الفاضلة قرينته -رحمها الله- وابنتاه (منى) و(هدى)، وعلموا من البوليس البريطانى أن الفريق قد سقط فى الشارع، وبدأت حالة فزع وحزن شديد وبكاء، وبدأت زوجة الفريق توجه اتهامات عصبية للرئيس الراحل (السادات) ورجاله بأنهم وراء مصرع زوجها لأنهم كانوا حتى يومين سابقين فى شقة فى الدور الثانى فى إحدى بنايات حى آخر منذ حضروا إلى (لندن).
لفت نظرى أن شابًا يدعى (عثمان) كان يبكى بحالة مفزعة، وعرفت أنه ابن زوجة الفريق من زوجها الأول، وأن الفريق هو الذى ربَّاه مع أختيه
وما هى إلا دقائق حتى حضر السفير الراحل (كمال الدين رفعت) سفير (مصر) فى (لندن) وبصحبته الوزير المفوض (نبيل حمدى)، وكانت السيدة قرينة الفريق قد بدأت تهذى بكلمات غير مفهومة وتطالب بدفن زوجها فى (القدس)، وتطلب مكالمة الملك (الحسن الثانى) ملك (المغرب) لأنه أمير المؤمنين، حتى يكون شاهدًا على ما جرى! وبدأت تحاول إجراء اتصالات تليفونية بلا وعى، فطلب منى السفير (كمال رفعت) أن أفصل (فيشة) التليفون، فقلت له: (لن أفعل ذلك لسبب بسيط، وهو أنه من غير صالحنا أثناء التحقيق التدخل فى مجريات الأحداث بصورتها الحالية، كما أننى لست رجل استخبارات!).
وقد لفت نظرى أن شابًا يدعى (عثمان) كان يبكى بحالة مفزعة، وعرفت أنه ابن زوجة الفريق من زوجها الأول، وأن الفريق هو الذى ربَّاه مع أختيه، وكان حانيًا عليه، فكان حزن الفتى عليه واضحًا بشكل لافت، ثم بدأت بعد ذلك إجراءات التحقيق من جانب الشرطة البريطانية بعد تشريح الجثمان وعقد جلسات المحكمة، وقد حضرتها شخصيًا، ومعى كبير عائلة (ناصف) الذى أوفده الرئيس (السادات) لمتابعة التحقيق، وكان رجلاً محترمًا، وهو والد اللواء (نبيل نبوى ناصف) ضابط أمن الدولة حينذاك، كما حضر (د. صلاح سليمان) أستاذ السمعيات الشهير فى (جامعة عين شمس)، وهو ابن شقيقة الفريق الراحل.
وتحدثت يومها (منى الليثى ناصف) أمام المحكمة بلغة إنجليزية راقية، وقد ذكرت أمها أن أباها قد سمَّاها هى وشقيقتها على اسم ابنتى الرئيس (عبدالناصر) تأكيدًا لتعلقه به منذ أن كان قائدًا للحرس الجمهورى له ومن بعده للرئيس (السادات)، وكان السيد (حافظ إسماعيل) مستشار الرئيس (السادات) للأمن القومى يجرى معنا اتصالات بين يوم وآخر يستعجل وصول الجثمان لأن إجراءات التحقيق قد استغرقت أسبوعين كاملين، حيث ظهر شاهد بريطانى أمام المحكمة قال إنه كان فى شرفة مسكنه فى مواجهة الشرفة التى جرى فيها الحادث، وأنه رأى الفريق (الليثى)، وقد كان طويل القامة، يفقد توازنه ثم يترنح على حافة سور الشرفة حتى هوى منها فى لحظة، وأكد الأطباء أن الفريق الراحل كان يُعانى من ضمور فى المخ يؤثر على توازنه عندما يقف.
وبذلك طويت صفحة غامضة من حياة المصريين فى (ستيوارت تاور) الذى هوت من إحدى شرفاته أيضًا الفنانة الراحلة (سعاد حسنى) بعد ذلك بما يقرب من ثلاثين عامًا.. إنه تاريخ ما أهمله التاريخ!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام
تاريخ النشر: 24 مارس 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%85%d8%a7-%d8%b3%d9%82%d8%b7-%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%8a%d8%ab%d9%89-%d9%86%d8%a7%d8%b5%d9%81-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%a7%d8%af/