مرت مصر في الأسابيع الأخيرة بأحداث غير مسبوقة في تاريخها الحديث وشد المصريون أنظار العالم مرة أخري عندما أدخلوا في قاموس العلوم السياسية ظاهرة جديدة ليس لها نظير في تحركات الشعوب وانتفاضات الأمم.
ويكفي أن وكالات الأنباء الأجنبية كانت تردد بوضوح وحسم أن التجمع المصري الحاشد قد اقترب من العشرين مليونا في أدق التقديرات من خلال التصوير الجوي والمسح الذي قامت به المواقع الالكترونية المعترف بها، لقد عرف العالم حالة العصيان المدني والتمرد الشعبي والتظاهر السلمي والحشد الجماهيري، ولكنها أول مرة يري فيها خروج شعب عن بكرة أبيه علي هذا النحو الذي اعتبره البعض أكبر تجمع بشري في مكان واحد علي امتداد العقود الأخيرة، ولاشك أن مفاصل الدولة المصرية كانت قد أصيبت بالتهابات سياسية حادة، كذلك فإن أعصاب الشعب المصري كان قد أصابها هي الأخري نوع من التوتر الذي يزرع الإحباط ويدفع نحو اليأس، ورغم ذلك المشهد الفريد في التاريخ كله إلا أن الرواية لم تتم فصولها بعد ومازلنا أمام تحديات لا تخلو من مخاطر ولا تستبعد مواجهات نرجو أن يتحكم فيها الضمير الوطني للمصريين مدركين أن دماءهم وأرواحهم حرام إلي يوم الدين، ولعلي أسجل هنا الملاحظات التالية:
أولا: إن أعضاء جماعة الإخوان المسلمين هم فصيل سياسي ـ رغم أن الجماعة بدأت دعوية تتجه إلي المجتمع دون أن تسعي إلي السلطة ـ ولذلك فإنها يجب أن تأخذ حقها كاملا غير منقوص ولكن دون اجتراء علي حقوق الغير وهوية الوطن، فمصر لأبنائها جميعا مسلمين وأقباطا، فقراء وأغنياء، رجالا ونساء، متأسلمين وليبراليين، فالمواطنة هي وحدها الحد الفاصل في الحقوق والواجبات بين كافة الأطراف والأطياف والقوي المؤثرة في القرار السياسي للدولة.
ثانيا: لقد كنت أقول دائما ـ في عهد الرئيس الأسبق مباركـ ان الحديث عن جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها كيانا سياسيا محظورا هو نوع من اللغو الذي لا طائل من ورائه، فالعبرة تكون بالوجود في الشارع السياسي وليست بالأوراق والمواثيق والنصوص لأن الشارع في النهاية هو التعبير الأصيل عن إرادة الأمة وهو صاحب الحق وصانع القرار ومانح التوكيل في صندوق الانتخاب والذي يستطيع أن يبدي اعتراضه علي ما يدور ويراجع التفويض الذي أعطاه للحاكم لأنه ليس تفويضا مطلقا ولا تكليفا مفتوحا علي بياض، وها أنا ذا أكرر الآن نفس المقولة وأقول إن الأصل في الشرعية هو الوجود في الشارع قبل الوجود في الصندوق، لأن الشارع يعبر عن الديمقراطية المباشرة التي هي الأصل في فلسفة الفكر الديمقراطي بينما الصندوق هو مجرد آلية لرصد الأصوات والحصول علي التوكيل من الجماهير للحكام شريطة المضي في الطريق الصحيح بشفافية وحكمة واتزان.
ثالثا: فقدت مصر في العام الأخير جزءا كبيرا من تعاطف أشقائها العرب خصوصا في منطقة الخليج رغم الحب الذي تكنه شعوبه لأبناء الكنانة، ولكن المخاوف المترسبة في الذاكرة التاريخية جعلتهم ينظرون بحذر إلي أم الدنيا وكأنها كيان آخر وأحجمت تلك الدول عن دعم الاقتصاد المصري في ظروف صعبة لأنهم رأوا أن ما يقدمونه سوف يصب في خانة الجماعة قبل أن يصل إلي الشعب الذي يبدو مندهشا إلي حد الذهول، حزينا إلي حد اليأس، يلوذ بإسلامه ومسيحيته ضد من يحاولون احتكار المعتقد الديني علي أوسع نطاق من أجل خدمة أهداف قصيرة الأجل وطموحات ذاتية في خدمة الحزبية الضيقة والجماعة الدينية المغلقة، وهاهي دول الخليج قد أطلت علي الدولة المركزية الأم في سعادة غامرة ورضا لا تخفيه وراحة تبديها وقالوا جميعا( إن مصر قد عادت)، ويكفي في ذلك بيان خادم الحرمين الشريفين الذي يحمد الله أن انتشل الكنانة من نفق مظلم، وبرقية دولة الإمارات العربية التي اقتصرت علي كلمتين فقط( مبروك لأم الدنيا).
رابعا: لقد اكتشف المصريون ومعهم كل الشعوب الشقيقة والصديقة أن مفهوم الولايات المتحدة الأمريكية لدورها في الشرق الأوسط ينبع أساسا من المصلحة العليا لإسرائيل وأمنها القومي علي المدي الطويل، وتلك السياسة لا تقوم علي مبادئ ثابتة ولكن علي مصالح متغيرة، لذلك راهنوا علي الجواد الإسلامي دون إيمان به أو احترام له أو حرص عليه ولكن رغبة في استخدامه أداة للاستقرار وحماية المصالح الأمريكية في المنطقة وفي مقدمتها أمن الدولة العبرية ثم الاقتراب من منابع البترول أيضا، إنها سياسة برجماتية لا تستند إلي أسس إستراتيجية بعيدة المدي بل تقف علي أرضية هشة، لذلك ردد الجميع ومنذ سنوات طويلة( إن المتغطي بالأمريكان هو في الحقيقة عريان).
خامسا: إنني أدعو أشقاءنا في جماعة الإخوان المسلمين إلي مراجعة موضوعية مع النفس ودراسة محايدة لحكمهم خلال عام استفزوا فيه كل القطاعات بدءا من القضاء مرورا بالإعلام وصولا إلي الشرطة والقوات المسلحة، واستعدوا المثقفين وأهالي الأقصر وبورسعيد ومعظم محافظات مصر بقرارات لا تخلو من عشوائية ولا تبرأ من استفزاز، ولقد كان أمام الجماعة وذراعها السياسية حزب الحرية والعدالة فرصة تاريخية لكي تقدم الجماعة نفسها ـ بعد أكثر من ثمانين عاما من الاغتراب داخل الوطن والحياة في السجون والمعتقلات ـ بشكل مختلف تماما كان يمكن أن يقدم نموذجا جاذبا للعالمين العربي والإسلامي وهي في النهاية تلك الحياة التي تعطي الفرصة وهناك من يستثمرها وهناك من يدفع ثمنها، ولقد كررنا ذلك كثيرا علي امتداد عام حكمهم ولكنهم لم يكونوا مستعدين لقبول نصيحة أحد! كما يجب علي الجماعة أن تعترف في نقد ذاتي بأن لديها نقصا في الكوادر وغيبة لرجال الدولة وافتقادا للمبدعين مع حالة انطواء لا مبرر له وانغلاق لا يجب أن يستمر.
.. تلك كلماتي الصادقة والمخلصة بعد أن التهبت مفاصل الدولة وتوترت أعصاب الشعب.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46250
تاريخ النشر: 23 يوليو 2013
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/222549.aspx