أثار الأديب الكبير توفيق الحكيم جدلا كبيرا بسبب مواقفه المعروفة تجاه المرأة وحرصه الشديد علي المال والتقتير عند إنفاقه وكل ذلك محتمل ومقبول من فيلسوف متميز هو بحق عصفور من الشرق وهو صاحب يوميات نائب في الأرياف، إلا أن أخطر مواقفه عموما هي تلك المتصلة بالحقبة الناصرية.
حيث احتفي به عبد الناصر في خمسينيات القرن الماضي، واعتبر أن رائعته عودة الروح هي احد إلهامات ثورة1952 ووسمه بأرفع النياشين، وظل توفيق الحكيم علي عهده مع الرئيس عبد الناصر باستثناء المشاركة في بعض المشاكسات الجماعية بعد هزيمة1967، وعندما رحل عبد الناصر عن عالمنا نشرت الصحف في أول أكتوبر1970 بكائية حزينة كتبها الحكيم في رثاء الزعيم البطل بل خاطبه قائلا( اغفر لي يا سيدي الرئيس فيداي ترتعشان وأنا أكتب عنك) وطالب بالاكتتاب من أجل إقامة تمثال لجمال عبد الناصر يوضع فوق القاعدة الضخمة التي كانت موجودة في ميدان التحرير حيث كان الملك فاروق يزمع أن يضع عليها تمثالا لأبيه فؤاد الأول، ولكن المدهش حقا هو أن توفيق الحكيم تحول بعد فترة قصيرة لكي يكون واحدا من ناقدي عصر عبد الناصر والرافضين لسياساته، وعند ذلك أصدر كتابه عودة الوعي علي غرار عودة الروح منتقدا بشدة عبد الناصر وحكمه وسياسته في وقت تعرض فيه الزعيم الراحل لحملة شرسة قلبت انتصاراته إلي هزائم وإنجازاته إلي أخطاء، فالسد العالي أفسد المناخ وأضر بخصوبة الأرض المصرية، أما تأميم قناة السويس الذي تعرضت بسببه مصر للعدوان الثلاثي فلم يكن له مبرر أيضا لأن عقد امتياز القناة كان سوف ينتهي طبيعيا عام1969، بل وأضاف الكارهون له أيضا أن قانون الإصلاح الزراعي قد فتت الملكية وأضر بالناتج الإجمالي للزراعة المصرية، وواضح أن كل هذه النقاط مردود عليها علي نحو يفحم كل أعداء العصر الناصري، أقول ذلك بمناسبة الذكري الثالثة والأربعين لرحيل ذلك الزعيم الذي كانت رؤاه واضحة ومواقفه حاسمة حتي رفع ثوار25 يناير2011 صورته دون غيره من زعماء مصر العظام وما أكثرهم وبهذه المناسبة فإنني لا أنتقص من قدر السادات أيضا فهو( بطل الحرب والسلام)، ولعلي أشير هنا إلي النقاط التالية:
أولا: إن عصر عبد الناصر كان بحق هو عصر النجوم اللامعة علي حد تعبير صائغ وثائق الناصرية محمد حسنين هيكل فهو ذلك العصر الذي تلا مباشرة الحرب العالمية الثانية حين ظهر علي المسرح الدولي أسماء لامعة من أمثال ديجول وخروشوف ونهرو و عبد الناصر و سوكارنو و نكروما، إنه عصر القيادة الكاريزمية، عصر الجماهير، عصر التحرر الوطني والمد القومي قبل أن ينحسرا معا تحت وطأة الضربات المتتالية للقوي التي تعودت علي السيطرة وأدمنت الهيمنة والتهمت المبادئ التي وضعتها ثم داست بالدبابات علي الأفكار التي روجت لها لذلك فإن العصر الناصري هو عصر الكبرياء والشموخ في تاريخنا الوطني الحديث بغض النظر عن النتائج فلقد رحل عبد الناصر والأرض محتلة ولكنه مضي إلي ربه واقفا يقاوم ببسالة ويدخل في واحدة من أروع حروبنا علي الإطلاق وهي حرب الاستنزاف، فالحكم علي الزعماء لا يكون بنهاياتهم وحدها ولكن بالشعلة التي أشعلوها لشعوبهم، فنابليون مات مهزوما سجينا في جزيرة سانت هيلانه و محمد علي قضي أيامه الأخيرة ـ بعد اتفاقية لندن1840 ـ حبيسا في إحدي غرف قصره يعاني مرض الخرف ويشهد رحيل ابنه إبراهيم علي حياة عينه كما أن بعض المصريين كانوا يبصقون علي عرابي في المقاهي بعد عودته من المنفي ويعتبرونه سبب الاحتلال رغم أنه زعيم ثورة الفلاحين في الجيش المصري.
ثانيا: إن الذين ينتقدون عبد الناصر ويتحاملون عليه لا يمكنهم تقويمه بمقاييس اليوم ولكن فقط بمقاييس عصره وظروف زمانه والتحديات التي كانت تحيط به والمؤامرات التي كانت تحاك ضده، فالتجريد عند التحليل جريمة أكاديمية كما أن الهوي لا يجب أن يحكم المؤرخ النزيه الذي يتقمص روح العصر الذي يكتب عنه وينطق بلغته ويفكر بطريقته.
ثالثا: ليس من المدهش بعد رحيل عبد الناصر بأكثر من أربعين عاما أن يتذكره الشباب في التجمعات الجماهيرية والانتفاضات الشعبية لأن الرجل وصل إلي قلوب أبناء شعبه واستقر في وجدان هذا الوطن مقاوما للظلم رافضا للهزيمة مناديا بالعدالة الاجتماعية التي كانت السمة الغالبة في عصره كله، بل إن المشهد الحالي في مصر يذكرنا بعبد الناصر وموقفه من الإخوان المسلمين وكأن التاريخ يعيد نفسه وإن تباينت الظروف واختلفت الشخوص وتغير الزمان.
رابعا: إن عصر عبد الناصر هو الذي بلور الشخصية المصرية الحديثة بما لها وما عليها ووضع بلاده علي خريطة الريادة في العالمين العربي و الإسلامي حتي ان الطريق الذي يصل مطار نيودلهي بوسط العاصمة الهندية هو شارع جمال عبد الناصر كما أن عددا كبيرا من المؤسسات التنموية والتعليمية في القارة الإفريقية مازال يحمل اسم ذلك الزعيم الخالد كذلك فإن تمثاله في العاصمة اللبنانية شاهد علي حب العرب له وتعلقهم به.
خامسا: إن عبد الناصر عندما يقف أمام محكمة التاريخ هو وغيره من حكام مصر بعد سقوط الأسرة العلوية سوف يكشف عن دور القوات المسلحة في هذا الوطن حامية لأرضه ودرعا لشعبه كالابن الوفي الذي يصد عن أبيه أهوال العصر وخطوب الزمان.
إنني أدعو إلي مصالحة تاريخية فيها اعتراف بأفضال معظم حكام أسرة محمد علي علي مصر وتقدير للدور الفدائي للرئيس محمد نجيب، وزعامة عبد الناصر التي لا نظير لها، وحكمة السادات رجل الدولة الفريد من نوعه، وحسني مبارك بما له وما عليه، وأيضا محمد مرسي بسنة واحدة في الحكم غيرت موازين القوي علي المسرح السياسي ودفعت الشعب المصري دفعا إلي ما لم يتوقعه أحد!.
.. رحم الله أديبنا الكبير توفيق الحكيم فلقد اقترنت عودة الروح بعودة الوعي أيضا!.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46320
تاريخ النشر: 1 أكتوبر 2013
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/234802.aspx