ذات مساء وأنا فى مكتبى برئاسة الجمهورية، حيث كنت سكرتير المعلومات للرئيس الأسبق (مبارك)، دقَّ جرس الهاتف، وقال لى موظف التحويلة: («محمد عبدالوهاب» على الخط يُريد التحدث إليك)، وقد انصرف ظنى مباشرةً إلى المهندس (محمد عبدالوهاب)، الذى كان وزير الصناعة فى ذلك الوقت، ولكن وجدت الصوت مختلفًا، ولكنه مألوف إلى الأذن.
لقد كان المتحدث هو فنان الشعب (محمد عبدالوهاب)، الذى بادرنى قائلاً إنه (سعيد بالتحدث إلىَّ، لأن بيننا أشياءَ مشتركة) -على حد تعبيره- وأدهشنى ذلك، لأننى لا أشترك مع ذلك الفنان العظيم فى شىء على الإطلاق، فلا أملك حلاوة صوته، ولا موهبة لحنه، ولكننى أملك فقط التشابه مع (صلعته)!
واستطرد الفنان الكبير بصوته العميق قائلاً: (لقد عرفت أنك تحمل الدكتوراه من «جامعة لندن» عن «الأقباط»، وأن نموذج الدراسة هو «مكرم عبيد باشا»).
وأضاف أن («مكرم عبيد» كان حلو الصوت، محبًا للطرب والغناء، وكنا نقضى معًا جلسات سمر طويلة فى أربعينيات القرن العشرين). ثم دخل (عبدالوهاب) فى جوهر موضوع المكالمة وسببها، قائلاً إنه يريد إبلاغ تحياته للسيد الرئيس، وإنه يتمنى عليه -بتوصية شديدة- تعيين المحامى المعروف (أ. لبيب معوض) عضوًا فى (مجلس الشورى)، وقد كان (عبدالوهاب) ذاته عضوًا فيه، ثم استطرد قائلاً إنه يتطلع إلى لقاء منفرد بالسيد الرئيس، كما تعوَّد مع حكام (مصر) السابقين، وأنهى مكالمته بالتمنيات الطيبة والدعوات الصادقة.
قلت إلى الرئيس حديث (عبدالوهاب) الهاتفى والمطلبين اللذين أشار إليهما، حيث لم يعترض الرئيس عليهما مبدئيا، وبالفعل تحدد موعد بعدها بأيام
وظللت بعدها أفكِّر فى هذه المكالمة مندهشًا لذكاء ذلك الفنان العبقرى، الذى يدرس تاريخ الشخص الذى يتحدث إليه أولاً وقبل كل شىء، ويبحث عن القواسم المشتركة معه. وتصوَّرت أنه قد سأل من يعرفون مؤسسة الرئاسة عن سكرتير الرئيس الذى سوف يتحدث إليه، وما يمكن أن يثير اهتمامه، وتلك رؤية متقدمة لدى المتخصصين فى العلاقات العامة، ولكن ذلك الفنان المتفرد يحوزها دون جهد أو تدريب، فالفطرة لديه والذكاء عنده يحركانه فى الاتجاه الصحيح كلما أراد.
وقد نقلت إلى الرئيس حديث (عبدالوهاب) الهاتفى والمطلبين اللذين أشار إليهما، حيث لم يعترض الرئيس عليهما مبدئيا، وبالفعل تحدد موعد بعدها بأيام، والتقى الرئيس (مبارك) الفنانَ الكبير، وعند نهاية اللقاء طلب منى (عبدالوهاب) أن يكون الخبر فى الصفحة الأولى للصحف الحكومية الثلاث، مثلما كان التقليد معه دائمًا فى هذه المناسبات. وبالفعل، تمَّ له ما أراد.
وعندما عدت إلى الرئيس بعد اللقاء قلت له متحذلقًا: (يا سيادة الرئيس، إنك سادس حاكم لـ«مصر» يستقبل «عبدالوهاب»، باعتباره «فنان مصر الأول»، فلقد استقبله الملكان «فؤاد»، و«فاروق»، والرؤساء «نجيب»، و«عبدالناصر»، و«السادات»)، فابتسم الرئيس وقال: (وسوف يستقبله مَنْ بعدى إن شاء الله)!
وأتذكر الآن أن قرينته الراحلة السيدة (نهلة القدسى) قد قالت لى ذات مرة فى الهاتف، إن (عبدالوهاب) يسافر إلى أماكن كثيرة وهو فى شقته، تجنبًا للإسراف فى استخدام الطيران الذى لا يحبذه، وإنها قد كتبت على بعض الحجرات أوراقًا بأسماء دول، فهذه حجرة (إيطاليا)، وتلك حجرة (فرنسا)، وثالثة حجرة (إسبانيا)، وهى توحى له وكأنه قد زار هذه البلاد بدخول تلك الحجرات، وهو لا يمانع فى ذلك ساخرًا، لأنه يدرك أنها تريد تسليته وقطع دابر الملل من حياته.
لقد كان -رحمه الله- شديد الحرص على صحته، يبالغ فى الوقاية من أية عدوى ولو بالبرد العابر، كما كان يغيِّر ملابسه الداخلية بأخرى جديدة تمامًا كل مرة، حرصًا منه على صحته ومظهره، والكل يدرك أنه كان معروفًا بلباقته فى الحديث وتعبيراته الراقية، ولا عجب فهو تلميذ أمير الشعراء (أحمد شوقى)!
وعند منتصف ليلة عام 1992 اتصلت بى الأخت العزيزة الفنانة (ياسمين الخيام)، وقالت لى إن فنان الشعب قد رحل عن عالمنا منذ دقائق، وإنها تتلو القرآن بجانبه، وإن زوجته السيدة (نهلة) مشغولة بترتيب البيت والمحافظة على المقتنيات الثمينة! وقد أبلغت الرئيس فى الصباح الباكر برحيل (عبدالوهاب)، وقلت له: (إنه لن يرى رئيسًا بعدك كما توقعت!)، وقد أبدى الرئيس الأسبق أسفه، وطلب أن يصدر بيانٌ رسمىٌ عن رئاسة الجمهورية ينعى للأمة العربية أعظم فنانيها، الذى استكمل على المستوى الشعبى مسيرة (سيد درويش)، وزاد عليه مؤثرات روح العصر وإيقاع الموسيقى الغربية!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 219
تاريخ النشر: 29 مارس 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%85%d8%a7-%d8%a7%d8%aa%d8%b5%d9%84-%d8%a8%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%86%d8%a7%d9%86-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%b9%d8%a8%d8%af%d8%a7%d9%84%d9%88%d9%87%d8%a7%d8%a8/