حكم الإخوان المسلمون مصر عاما كارثيا بكل المعاني، كما تصرفوا علي النحو الذي حدث بعد أن خرجت الجماهير عليهم وأطاحت بهم، وكانت تلك التصرفات هي التي أثبتت أن العنف لا يزال يجري في دمائهم وأن الممارسات الإرهابية أبرز أساليبهم، لو لم يفعلوا ذلك كله لظلوا في عيوننا أصحاب قضية يتعاطف معها الكثيرون، ولكن الله أراد أن يكشف أمرهم وأن تتضح حقيقتهم فعاني منهم المصريون وهم خارج السلطة وأيضا وهم فيها وكذلك بعد تركها، لقد اصطدمت جماعة الإخوان المسلمين بالسلطة في العصرين الملكي والجمهوري، وعندما حكمت هي اصطدمت بالشعب ذاته، وأنا أريد أن أعرف ذلك العقل الذي يضع إستراتيجية عمل هذه الجماعة وخططها المختلفة لكي أقول له إن الذين يفعلون ذلك لا يفهمون طبيعة الشعب المصري ولا يمضون وراء روح الإسلام الحنيف ولكنهم أقرب إلي الجماعات المغلقة ذات الطبيعة الفاشية، ولو أنهم تعلموا من دروس الماضي ما حدث لهم ما جري، ولو أنهم قاموا بمراجعة أمينة لأخطائهم واعتذروا للشعب المصري عنها وانخرطوا في مسيرة الحياة السياسية من جديد لكان أمرهم مختلفا، ولكن الذين لا يتعلمون من أخطائهم هم أولئك الغافلون الذين لا يفهمون الحاضر ولا يرون المستقبل ويغلقون عيونهم ويصمون آذانهم ولا يتعظون من دروس التاريخ بل ويكررون أخطاءهم دائما، ولو أنهم اكتفوا بأن يكونوا جماعة دعوية سلمية ينبثق عنها حزب سياسي معتدل لكان أمرهم مختلفا، ولكن شهوة الحكم وبريق السلطة مع قلة الخبرة وندرة الكفاءة هي التي أدت إلي فشل حكمهم القصير فأضاعوا فرصتهم الوحيدة بعد أكثر من ثمانين عاما من الانتظار! ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد فهم في النهاية مصريون وإن ضلوا الطريق، وهم إخوة لنا وأشقاء وأصدقاء وجيران ننتمي إلي نفس الوطن وندين بذات العقيدة الروحية فما هو السبيل لإعادتهم لجادة الصواب؟! إن الطريق طويل ولكننا يجب أن نكون معا علي أرضية واحدة، فمصر لكل أبنائها الذين يجب أن يؤمنوا بها قبل غيرها وأن يدركوا أن الوطن هو أغلي ما يملك الإنسان، وليتذكروا أن نبي الإسلام صلي الله عليه وسلم عندما أخرج من مكة نظر إليها دامعا وقال( والله إنك أحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت) فالوطن ليس هناك ماهو أغلي منه، وقد قال أمير الشعراء( وطني لو شغلت بالخلد عنه... راودتني إليه في الخلد نفسي) ولماذا نذهب بعيدا؟ إن الحق تبارك وتعالي يقول في التنزيل الحكيم( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) وفي ذلك إشارة إلهية إلي فكرة الانتماء لشعب أو قبيلة أي الانتماء إلي وطن، والذين يتحدثون عن الأممية لا يدركون أنها مرحلة تالية للانتماء للوطن لا تسبقه ولكن تأتي بعده، فالأوطان هي الزمان والمكان والسكان، ونحن المصريون ننتمي إلي أعرق الحضارات وأعمق الثقافات ولا يمكن أن تكون الوطنية لدينا تائهة تذروها الرياح فنحن لا نفرط في حفنة من ترابنا الوطني في الجنوب أوفي الشمال لأننا نملك واحدة من أقدم الخرائط الجغرافية لوطن عظيم قهر الغزوات وطرد المحتلين وظل علي الدوام محتفظا بعبقريته التي تتجلي أمام المحن وتتألق في مواجهة الخطوب، وأود أن أؤكد هنا أنني لا أطالب بمصالحة وطنية سطحية لا تخلو من سذاجة لأنها تكون مرحلية لا تصمد أمام الأحداث والتطورات، بل أطالب بعملية سياسية واسعة تغوص في أعماق النفوس وتفتح أبواب العقول وتمحو ذكريات الماضي وتؤسس لعصر مختلف مفروش بالنيات الحسنة والتحليلات الموضوعية والأفكار البناءة، إنني أستطيع أن ألخص ما أطالب به في نقاط ثلاث:
أولا: قيام جماعة الإخوان المسلمين بمراجعة شاملة لتاريخهم منذ المرشد الأول الإمام حسن البنا حتي الآن، وأن يعتذروا عن أخطائهم من اغتيالات سياسية وعنف عشوائي وصل إلي حد الإرهاب المنظم، وأن يدركوا أن كثيرا من الحركات الدينية والسياسية في التاريخ قد راجعت ماضيها وانتقدت حاضرها وتعهدت بإصلاح مستقبلها، كما أن الاعتذار فضيلة إسلامية يقابلها مفهوم التوبة في المنطق الديني، وفي هذه الحالة سوف يستقبلهم المجتمع أبناء له بلا تفرقة أو تمييز ماداموا يلتزمون بقواعد اللعبة السياسية وأسلوب الديمقراطية الغربية الذي ارتضوه من قبل عندئذ سوف تكون العودة هي طريق الخلاص فالعود أحمد!
ثانيا: علي القوي الوطنية في الجانب الآخر أن تفتح ذراعيها حفاوة بالعائدين إذ أن فلسفة الحياة تقوم علي أمرين هما النسيان والغفران، فقد تعلم الإنسان منذ بدء الخليقة كيف ينسي وكيف يغفر وإلا ما استمرت الحياة وما عاش البشر وتلك هي المقدمة حتي نلتقي جميعا علي كلمة سواء ونكون بحق خير أمة أخرجت للناس.
ثالثا: إن مستقبل الوطن المصري يحتاج إلي جهد أبنائه ـ كل أبنائه ـ فالطريق طويل والسنوات الثلاث الأخيرة قد أشعلت في داخلنا شرارة الحرية ضد كل فساد أو استبداد، ولكنها أيضا دمرت الكثير علي الأرض وأدخلتنا في معادلة اقتصادية صعبة فقد توقفنا عن الإنتاج وقبلنا بتدهور الخدمات علي نحو أدي إلي المساس بأرزاق البسطاء وتعطيل التنمية حتي تفرغ الجميع للصياح في الفضائيات، أو التجمع في الاعتصامات، أو مواصلة الاحتجاجات!
.. هذه ملاحظات أسوقها محاولا انتزاع فتيل المواجهة وإحلال الحوار العاقل والموضوعي والوطني بديلا عن الصدام الدائم والتخبط المستمر والطريق الذي لا تبدو له ملامح واضحة، لقد أضحي الضباب يغلف كل شيء ويقودنا إلي المجهول أحيانا، فقد آن الأوان لصحوة مصرية وطنية تحتوي الجميع لنمضي معا علي الطريق الذي لا بديل عنه ولابد منه، طريق مصر المعاصرة ذات الدولة الحديثة، التي تحتفي بالعلم وتقدر الفكر وتعلي من قدر الإنسان!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46432
تاريخ النشر: 21 يناير 2014
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/254568.aspx