كتب الشاعر المبدع فاروق جويدة رائعته ( دماء علي أستار الكعبة) وها أنا أقيم علي ذات الوزن عنوان هذا المقال ذلك أنني معني بالتاريخ الذي أتنسم رائحته حفي بالتراث الذي أعيش أجواءه لأن العدوان عليهما هو عدوان علي الحضارة الإنسانية والهوية المصرية في آن واحد، فحضارة الكنانة هي سبيكة من رقائق فرعونية وإغريقية ويونانية وقبطية وإسلامية مع مسحة من الحداثة الغربية، لذلك انتفضت شخصيا عندما جري العبث بحديقة الأورمان علي يد من لا يعرفون قيمة التراث ولا يكترثون بمكانة التاريخ، ويوم أصاب بوابة الأورمان تشويه وفقدت الحديقة التاريخية بعض كنوز القرن التاسع عشر شعرت بحزن دفين، وعندما أصابت محاولة تدمير مديرية أمن القاهرة واجهة المتحف الإسلامي وبعض محتوياته وأغلي مقتنياته شعرت بأن الضربة موجهة إلي تاريخ عريق وحضارة شامخة ذكرتني بجرائم التتار في بغداد واكتساح المغول للمدائن الآسيوية منذ عدة قرون وأدركت أننا نواجه بحق أعداء الحياة وأعداء التراث وأعداء الحضارة الإنسانية مجتمعين، ولعلي أبسط بهذه المناسبة الملاحظات الخمس التالية:
أولا: إن دولا كثيرة في هذا العالم تباهي بما لديها من آثار ولو قليلة قد لا تتجاوز بعض القطع التي لدينا منها مخازن مليئة، ولكن الكل يدرك أن عراقة الشعوب وتاريخ الحضارات وعظمة الأمم لا تشهد عليها إلا آثارها الباقية، ونحن للأسف من أكثر شعوب الأرض امتهانا للآثار وتفريطا فيها بل وعدوانا عليها وكأننا لا نعلم أن الأمريكيين حاولوا شراء كوبري لندن الشهير وأكشاك التليفونات الحديدية الحمراء يريدون أن ينقلوا من العاصمة البريطانية شيئا من تراثها يعوضون به فقر تاريخهم الذي لا يمتد لأكثر من أربعمائة عام، لذلك فإن حجم الجرم الذي نرتكبه لا يعادله جرم آخر، ومازلت أتذكر أن الشارع المؤدي إلي المتحف البريطاني الشهير يسمي الشارع القبطي نسبة إلي الجناح المصري الضخم من التاريخ الفرعوني والقبطي والإسلامي داخل ذلك المتحف الكبير الذي خرج من مكتبته فيلسوف الاشتراكية العلمية كارل ماركس وغيره من مفكري البشرية الكبار.
ثانيا: لا يوجد في العالم متحف آثار سواء في لندن أو باريس أو برلين أو نيويورك أو بطرسبرج إلا وأهل تلك المتاحف وغيرها يشعرون بزهو كبير لوجود قطع أثرية مصرية لديهم، فالمتروبوليتان علي ضخامته يباهي بها، والإرميتاج علي فخامته يشير إليها، ونحن هنا نكدسها في المخازن أو نعبث بها بين لصوص الآثار ومغتصبي الحضارات! وهل ننسي شعبية آثارنا عندما نرسلها للخارج وكيف تتكالب عليها جماهير الدول المختلفة التي لا تستطيع القدوم إلي مصر فإذا الملك توت عنخ آمون بقناعه الذهبي أمامهم في معرض مؤقت داخل بلادهم لأنها الحضارة المصرية الملهمة والمعلمة وحجر الزاوية في تاريخ الإنسانية كلها.
ثالثا: لقد حاول بعض من يتمسحون بالإسلام الحنيف أن يعادوا الآثار القديمة وأن يتحدثوا عنها بلغة الأصنام إلي حد تغطية بعض رءوسها أو كسر رقاب بعضها الآخر باسم الإسلام الحنيف بل وتجاوزوا ذلك إلي تحطيم آثار الشعوب الأخري مثلما فعلت حركة طالبان مع التماثيل البوذية، وواقع الأمر أن الإسلام العظيم براء من كل هذه الجرائم، والغريب أن أيادي الجريمة امتدت إلي الآثار الإسلامية ذاتها بأيدي من يزعمون الحديث باسم الإسلام ويتشدقون بشعارات الإسلام السياسي، إننا يجب أن نذرف الدموع علي تلك المخطوطات النادرة التي عبثت بها الجريمة ضد مديرية أمن القاهرة مؤخرا والتي عصفت بآثار زجاجية نادرة وأكثر من مشكاة إسلامية لا نظير لها وذلك كله نتاجا لجريمة نكراء ضد الإسلام والوطن.
رابعا: إن التراث الحضاري ملك للإنسانية جمعاء ولذلك فإن الطعنة التي تلقاها المتحف الإسلامي بالقاهرة ليست طعنة للعالمين العربي والإسلامي وحدهما ولكنها طعنة ضد المجتمع الدولي كله لذلك تحركت منظمة اليونسكو المسئولة عن حفظ التراث العالمي وارتفعت أصوات مؤرخي الحضارات وعشاق التاريخ ضد ما جري، بل إنني أزعم هنا أن الذين وقفوا وراء تلك الجريمة قد خسروا بها أكثر مما خسروه في أي جريمة أخري، ولقد شهدت شخصيا مقتنيات ذلك المتحف الرائع بعد تجديده وشعرت يومها بزهو حضاري لا نظير له فإذا الأيدي الآثمة تمتد إليه وتشوه معالمه وتطيح بأجمل مقتنياته! وكأنما أراد الله أن يفضح الذين أجرموا أمام المجتمع البشري كله.
خامسا: إنني أنتهز هذه المناسبة لأطالب بتغليظ العقوبة في جريمة الحفر بحثا عن الآثار خارج إطار القانون، أو نبش الأرض احتمالا لوجودها لأن ذلك النوع من الجرائم ليس اغتصابا لذاكرة الأمة أو عدوانا علي ضميرها الباقي فقط، ولكنه يتجاوز ذلك إلي تأكيد انعدام وطنية الفاعل وضعف انتمائه لبلده وانهيار منظومة الأخلاق لديه! إنه ليس سرا أن آثارنا العظيمة قد تعرضت لعملية نزح كبير من الأجانب والمصريين علي السواء حيث جري بعضها تحت مسمي الحفريات الأثرية برعاية الدولة في حين جري الأغلب الأعم منها من خلال دكاكين مشبوهة للاتجار في الآثار وتسريب قطع نادرة مقابل حفنة من الأموال! خصوصا أنه كانت لدينا قديما قوانين بالية بأحقية المكتشف الأجنبي في نصف ما يتوصل إليه، ويكفي أن نتأمل المسلات المصرية الكبري في ميادين العالم المتقدم والتماثيل النادرة بدءا من رأس نفرتيتي في متحف برلين إلي أصغر قطعة داخل متاحف العالم تحت رعاية مدرسة علم المصريات الذي ينتشر علماؤه في أرجاء الدنيا، فمصر هي صاحبة الحضارة الوحيدة التي توجد مدرسة مستقلة باسمها.
.. هذه خواطر أثارتها جريمة العدوان علي المتحف الإسلامي بالقاهرة وشعورنا بالحزن أمام ما حدث لأن مصر التي تحتفظ بمتاحف فرعونية وأخري قبطية وثالثة إسلامية وأيضا متاحف نوبية وزراعية وصناعية تنظر الآن في قلق إلي قضية حماية الآثار وضرورة الحفاظ عليها والتوقف عن تبديدها حتي ينظر الأجداد إلي أحفادهم بالرضا الصامت وهم يرقدون في قبورهم يتأملون مسيرة الإنسانية حفاظا علي الحضارات والثقافات والديانات فهي كلها وديعة لدي الإنسان يجب أن تبقي لا أن تتعرض للعدوان!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46446
تاريخ النشر: 4 فبراير 2014
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/256972.aspx