أظن أن «الدور الإقليمي» «لمصر» مؤشر فاعل لوضعها الدولى فضلاً عن استقرارها الداخلي، والذين يتوهمون غير ذلك يتصورون أن الانتشار المصرى فى المنطقة يثير لديهم ذكريات حرب «اليمن» وتداعياتها أو الانخراط الزائد فى حروب «القضية الفلسطينية»
متناسين أن «مصر» تترجم دورها السياسى فى المنطقة إلى مصالح اقتصادية ومزايا استثمارية، وليس صحيحًا على الإطلاق أن الانتشار المصرى الواعى الذكى الذى يقوم على أجندةٍ مدروسة هو عبء على الشعب المصرى ومقدراته، فمصر قامت تاريخيًا على معادلة التميز الإقليمى باعتبارها الدولة المركزية المحورية التى تبيع سياسة وتشترى اقتصادًا! ونحن نعترف هنا أن للدور الإقليمى تكلفة سياسية واقتصادية وثقافية بل وأحيانًا عسكرية ولكن العائد دائمًا هو التألق الدولى والتوهج الحضاري، و«مصر» دولة ليست ككل «الأمصار» تاريخها يتحدث وجغرافيتها تقول، وسكانها كانوا صناع حضارة عبر التاريخ، ولكن هناك دولاً أخرى فى «الشرق الأوسط» تشاطرنا الشعور بالأهمية وترى أن لديها مقومات حضارية موازية مثل «إيران» أو تاريخ سياسى ثقيل مثل «تركيا» أو قوة عسكرية طاغية مثل «إسرائيل» بل وأيضًا دول فقيرة قابعة على مداخل البحر الأحمر فى «شرق إفريقيا» تنظر لنا فى تحفظ وحذر لا مبرر لهما، ولذلك فإننا نعالج قضية الوضع الإقليمى من خلال المحاور التالية:
أولاً: إن الجمهورية التركية التى أسسها «أتاتورك» قد تعرضت فى السنوات الأخيرة لجنوحٍ خرج بها عن خطها المرسوم حيث تمكن تيار الإسلام السياسى التركى من التقدم نحو السلطة، مرة بتجربة فاشلة برئاسة «نجم الدين أربكان» وأخرى ناجحة بقيادة «رجب طيب أردوغان» الذى تمكن من السيطرة على «المؤسسة العسكرية» حامية تعاليم الغازى «مصطفى كمال» ثم كان المؤشر الذى أدى إلى استقرار حكومة «أردوغان» هو القفزة الاقتصادية الكبيرة التى رفعت دخل الفرد التركى من أقل من 4آلاف دولار سنويًا ليصل إلى 11 ألف دولار سنويًا، فالشعوب ـ مثل الجيوش ـ تمشى على بطونها وتفكر بأمعائها والفيصل لديها هو التغيير فى مستوى معيشتها، ولكن الأخطر فى توجهات «أردوغان» هو تطلعاته «العثمانية» وأحلامه فى استعادة «الخلافة الإسلامية» من جديد حيث رأى فى «جماعة الإخوان المسلمين» ركيزة تمتد بها أحلامه انطلاقًا من «مصر» حتى شجعته ثورات «الربيع العربي» فتصور أنه يستطيع أن يقيم حزامًا إسلاميًا يسيطر على البلاد والعباد، وقد كان ذلك غريبًا على دولته التى ربطتها علاقات إستراتيجية «بإسرائيل» بالإضافة إلى ميراثها التاريخى من الصدام بالعرب والعداء لهم، ولكنها حركة التاريخ التى تفاجئنا دائمًا بتكرار «السيناريوهات» مع اختلاف فى التفاصيل.
ثانيًا: إن «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» نموذج مختلف على الطرف الآخر من الخريطة العربية الإسلامية فهى تقود تيارًا مختلفًا عن تاريخها الطويل منذ خرجت من شرنقة الدولة «الصفوية» ثم حكم «الشاة» لتدخل فى عباءة «آيات الله» واستطاعت بدبلوماسية ذكية أن تفرض وجودها على الخريطة الدولية وأن تتقدم ببرنامجها «النووي» لتزعج «الولايات المتحدة» و«الغرب» بل وتخيف «إسرائيل» أيضًا، ورغم نقاط الاختلاف بين «الفرس» و«العرب» وهو اختلافٌ سياسى يلبس رداءً طائفيًا سواء فى «البحرين» أو باغتصاب الجزر الإماراتية الثلاث، أو غير ذلك مما تحفل به الأجندة السياسية الإيرانية فى السنوات الأخيرة، فإنه يعنى أن «الدولة الإسلامية الكبري» الرابضة أمام البوابة الشرقية للأمة العربية تحمل فكرها الخاص ورؤيتها المختلفة، وبرغم التباين بين السياستين التركية والإيرانية فى المأساة السورية ومستقبل الصراع العربى الإسرائيلى وغير ذلك من القضايا الساخنة إلا أنهما يتفقان فى رصد ماهو قائم والتفكير فيما هو قادم!
ثالثًا: فى ظنى فإن الرابح الأول من كل ما جرى فى السنوات الأخيرة هو «الدولة العبرية» بعنصريتها وعدوانيتها وجرائمها اليومية، فقد استفادت «إسرائيل» كثيرًا مما جرى من تطورات على الساحة الإقليمية فهى تحاول أن تكون الرابح الوحيد واللاعب الرئيس فى المنطقة، ولا مانع لديها من تحالف غير معلن مع تيار «الإسلام السياسي» فى «الشرق الأوسط»!
رابعًا: فى غمار ذلك كله لو تأملنا الوضع العربى الراهن فسوف نكتشف أنه فى أسوأ حالاته، فالاختلافات والصراعات بل والارتباطات الخارجية تعيد توزيع الأدوار العربية بشكل سلبى يغرى أعداء الأمة العربية بالنهش فى جسدها تارة بحرب المياه من «سد أتاتورك» فى «تركيا» الذى أدى إلى تخفيض حصتي«العراق» و«سوريا» من «نهر الفرات» وصولاً إلى سد «النهضة الإثيوبي» الذى كشف مؤخرًا عن درجة عالية من العداء للعرب الأفارقة وخصوصًا «مصر» التى تجرى محاصرتها واستهدافها من كل اتجاه.
خامسًا: إن محاولات استهداف «مصر» ومحاصرتها لمنعها من الإقلاع نحو مستقبل أفضل هى محاولات واضحة أخذت منحنيً خطيرًا مع بزوغ شمس «الربيع العربي» وظنت القوى الإقليمية أن «مصر» قد أصبحت لقمة سائغة لمن يريد أن يعطل نموها ويعبث بهوية شعبها، لذلك أصبح من المتعين علينا مراجعة سياستنا الخارجية فى خطوطها العريضة بل وتفاصيلها الفرعية، فنحن بحاجة إلى سياسة جديدة تجاه «إيران» وأنا أتصور أنه قد حان الوقت لإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع «طهران» حتى لا نسمح لها وحدها بالانفراد بالحديث باسم المنطقة أو الضغط على دول الخليج على الجانب الآخر إذ لابد من اشتباكٍ سياسى دائم معها وحوار دبلوماسى متصل، فعودة العلاقات لا تعبر عن الحب أو الكراهية ولكنها تعبر عن الأهمية المتبادلة للدولتين إقليميًا ودوليًا، أما «الجمهورية التركية» فنحن مجبرون على الحذر تجاهها فى السنوات القادمة لأن شهيتها المفتوحة تجاه العالمين العربى والإسلامى تدعو إلى مراجعة دائمة ونظرة شاملة ترفع عن المنطقة مخاطر السقوط فى مستنقع عثمانى جديد!
.. أيها السيدات والسادة، يا أبناء مصر من كل الاتجاهات السياسية والتيارات الفكرية والطوائف الدينية والشرائح الاجتماعية .. إن مصر قد أصبحت هدفًا مباشرًا لكل قوى البغى والطغيان فى المنطقة على حدودها وخارجها وداخلها، كما أن هناك قوى تتربص بها وتريد لبلد الحضارات العريقة ألا تنطلق إلى الأمام وأن تظل مكبلة بمشكلاتها، منكفئة على ذاتها، مغلولة اليدين، مهيضة الجناح، تطحنها الصراعات وتضربها الأراجيف والشائعات وحولها شامتون وحاقدون بل وكارهون، ولا ينهض استثناءً على ذلك إلا بعض دول الخليج التى انقسمت بين محبٍ عاشق للكنانة وبين كارهٍ موتور لا يريد لها خيرًا، لذلك يجب أن تتوحد كلمة المصريين وأن ينبذوا الخلافات وأن يرفضوا أسباب الفتنة وأن يقاوموا الإرهاب فى شجاعة آملين أن يكون الرئيس القادم رئيسًا لكل المصريين لا يحكمه الهوى ولا تشده نوازع شخصية أو دوافع سياسية إلا ما كان متصلاً بالمصالح العليا للبلاد والحقوق المشروعة للوطن .. وسوف تبقى «مصر» صامدة أمام الرياح العاتية، شامخة أمام العواصف الدولية والإقليمية، مؤمنة بأنها كنانة الله فى الأرض.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46460
تاريخ النشر: 18 فبراير 2014
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/260398.aspx