شغل المصريون أنفسهم فى الأسابيع الأخيرة بالبرنامج الانتخابى لكل مرشح رئاسى ولكن الأمر فى ظنى يتجاوز ذلك إلى البحث فى الخلفية الفكرية لمن نسلمه قيادة البلاد فى السنوات الأربع القادمة، فالبرامج متوفرة والأفكار موجودة والاقتراحات كثيرة والمشروعات بغير حدود ولكن يسبق ذلك كله ضرورة البحث فى منهج التفكير لدى المرشح لأن الإنسان فى النهاية «مشروع زمني» تحكمه ملابسات وظروف مع ارتباط بطبيعة التعليم ونوعية الثقافة ونمط المعيشة، إن الفارق بين شخص وآخر يكمن فى طريقة كل منهما فى جدولة ذهنه وتركيز أولوياته وقدرته على الخيال واستشراف المستقبل وتحديد ملامح مجتمع الأمل، إننا عندما نتحدث عن برنامج «السيسي» أو «صباحي» فإننا لا نتحدث عن أوراق صماء أو دراسات نظرية بل يجب أن نتحدث عن الرؤى التى تحكم كل منهما، لذلك فإننى أطرح الملاحظات الآتية:
أولاً: إن الرئيس القادم سوف يجد على مكتبه عدداً من الملفات المهمة وعليه أن يفاضل بينها من حيث الأهمية وتأثير عنصر الزمن أيضاً لأن هناك أموراً مهمة ولكنها ليست عاجلة وأموراً أخرى ذات طبيعة عاجلة وإن كانت أقل أهمية، فإذا اقتحم الرئيس القادم القضايا المثارة والمسائل الشائكة فإن عليه أن يختار منها حتى يعرف كيف يبدأ التعامل مع الأوضاع القائمة، إن على مكتب الرئيس القادم ملفات «سد النهضة»، تطهير «سيناء»، حماية الحدود الغربية والجنوبية للخريطة المصرية، النهوض بالتعليم، الارتقاء بالعشوائيات من خلال مواجهة غير نمطية، ضمان الرعاية الصحية للفقراء، كل ذلك يأتى مع تشجيع الإستثمار ودفع معدلات النمو والربط بين الديمقراطية والتنمية باعتبارهما الجناح السياسى والجناح الاقتصادى الذى يطير به جسد الوطن المصري، إن الرئيس القادم مطالب بأن يدرس جيداً «فقه الأولويات» وأن يعرف كيف يبدأ لأن البداية الصحيحة تؤدى إلى الطريق الأمثل والنهاية الناجحة.
ثانياً: يجب أن يدرك كل مرشح رئاسى أنه ليس حالة خاصة ولا عبقرياً لم تأت به الأوائل بل لعله يدرك جيداً أنه إنسان عادى قادته المقادير إلى حيث هو، وهنا نتوقف قليلاً عند أهمية التشاور وتبادل الرأى لأن الإنسان الفرد لا يستطيع وحده مهما كانت قدراته وخبراته أن يقرر فى كل القضايا وأن يتحدث فى كل الأمور لأنه لم يعش الدهر كله كما لم يعش فى كل مكان! من هنا كان ميلاد الفكر الديمقراطى استكمالاً «لنظرية الشوري» واعترافاً بحقيقة مؤداها أن الزعماء لا يحكمون وحدهم إذ أن من يحيطون بهم يلعبون دوراً كبيراً فى تحديد المسار ونوعية الاختيار.
ثالثاً: إن الفارق بين شخص وآخر يكمن فى قدرته على التخيل، فالخيال الثرى هو الذى يحقق الإنجازات العظيمة ويضع صاحبه أمام مفترق طرق تبدو كلها مضاءة أمامه، كما أن قدرة مؤسسات المجتمع على النهوض به تبدو ممكنة الآن، وفى ظنى أن التركيز على العامل القومى يمكن أن يمتص جزءاً كبيراً من المشكلات ويدفع الجميع نحو استعادة سنوات الحلم القومى لأن «نظرية الدور الإقليمي» «لمصر» نظرية أساسية فمصر تعيش على التاريخ والجغرافيا معاً، كما أنها دولة مركزية محورية لا يمكن أن تلعب «دور المراقب» فى مباراة حامية الوطيس لاعبوها إيرانيون وأتراك وإسرائيليون و»مصر» تجلس صامتة كأنها «أم العواجز».
رابعاً: إن الذين يدرسون التاريخ جيداً يدركون أن الدهاء هو أحد أدواته عندما يعيد نفسه فجأة مع اختلافاتٍ طفيفة وربما دون مقدمات ملموسة، والزعيم الحقيقى لابد أن يكون دارساً واعياً للتاريخ ملماً بتعرجاته وانحناءاته، فاهماً لأحداثه مستوعباً لدروسه، فالرؤية الحقيقية تتشكل من خلال دراسة التاريخ دراسة متعمقة لا تقف عند حدود متابعة سرد ما جرى ولكنها تتجاوز ذلك إلى طرح سؤالين مباشرين هما لماذا كان ما جري؟ وكيف حدث ما حدث؟ لاستخلاص العبرة وفهم فلسفة حركة البشر فى إطارى الزمان والمكان.
خامساً: إن البعد الاجتماعى هو ركيزة أساسية لتقييم الرئيس القادم، فالناس مازالت تتذكر «عبد الناصر» بسبب قضية البعد الاجتماعى واهتمامه بالطبقات الأكثر عدداً والأشد فقراً وإدراكه أن العدالة الإجتماعية هى بوابة الاستقرار و»رمانة الميزان» التى يزن بها الحاكم العادل ـ فى موضوعية وتجرد ـ حجم الفقر فى بلاده ويتمكن من مواجهته باعتباره هو «القنبلة الموقوتة» التى تضرب التنمية والديمقراطية معاً وتعصف بتطلعات الشعوب وأحلام الزعماء، فالمحتاج ليس حر الإرادة ولا قادراً على ابداء رأيه الحقيقى فى صندوق الانتخابات فضلاً عن خروجه على النسق المطلوب لتنظيم الأسرة والسعى نحو تحويل الكم السكانى إلى كيف فاعل فى إطار روح تنموية مطلوبة.
فإذا كانت هذه هى المحاور الرئيسية لحركة «الرئيس الزعيم» أو حتى «الرئيس فقط» فإننا نلفت النظر إلى زاوية خاصة لرؤية المستقبل تكمن فى أهمية التركيز على البعد القومى لمصر العربية لأن ذلك هو «الترياق» الأمثل لمواجهة «فيروس» توظيف الدين الحنيف لخدمة أهداف سياسية لفصيل أو حزب أو جماعة، فمصر قوية بأشقائها وتتعافى دائماً بدعمهم لأنهم يدركون على الجانب الآخر أن سقوط «مصر» لا قدر الله هو سقوط للمنطقة كلها لأن الكنانة هى «عمود الخيمة» وركيزة الاستقرار، وقديماً قال البريطانيون (إذا عطست «مصر» «فالشرق الأوسط» مصاب «بالإنفلونزا») .. إننا نريد من الرئيس القادم أن يقرأ كثيراً وأن يتحدث قليلاً وأن يستمع دائماً حتى يكون على دراية بما يدور حوله، وأن يتحسس الرأى العام الحقيقى وأن يبتعد عن «جوقة النفاق» و»حملة المباخر» الذين يهرعون إلى الصفوف الأولى حتى يراهم الحاكم الجديد لعلهم يحجزون لديه مكاناً فى المستقبل، وتبقى أهمية «الرؤية» دائماً لذلك أصدرت فى مطلع تسعينيات القرن الماضى كتابى «الرؤية الغائبة» إيماناً منى بأن «الرؤية» هى الشعلة المضيئة التى تبدد ظلام العشوائية الفكرية والتخبط السياسى واختلاط الأوراق حتى لا يفلت منا مستقبل نريده لوطن نعتز به وأجيال قادمة ربما لا تزال فى ضمير الغيب!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46558
تاريخ النشر: 27 مايو 2014
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/290348.aspx