كنت أتحرج دائماً من استخدام تعبير «الأمة المصرية» الذي جرى صكه في غضون «ثورة 1919» عندما رفع الثوار وقتها شعار «مصر للمصريين» والذي انضوت تحت لوائه كل طوائف الأمة المصرية بشكل غير مسبوق في تاريخنا الحديث وظل الحرج يلازمني من منطلق قومي إذ إنني عايشت منذ صدر شبابي التوجهات العروبية لمصر وآمنت بها واعتنقت فكرها، وبرغم أن مؤرخ الجغرافيا العظيم «جمال حمدان» كان يرى أن العروبة طارئة على الساحة المصرية إلا أنني كنت أظن ومازلت أن «عبد الناصر» هو الذي حدد الهوية العربية لمصر سياسياً بعد أن كانت موجودة ثقافياً وفكرياً فقط، «فعبد الناصر» هو الذي ألقى «بمصر» في أتون العروبة وحضنها الدافئ مستخدماً وجود الخطر الصهيوني المشترك الذي عرفه جيداً بعدما خاض «حرب فلسطين 1948» وعاش حصار «الفالوجة» وآمن بعمق أن العرب أمة واحدة، وظل ذلك الحرج يلازمني من استخدام مصطلح «الأمة المصرية» إلى أن تابعت ذات يوم حفل تنصيب الرئيس اللبناني الأسبق العماد «إميل لحود» فوجدته يتحدث عن «الأمة اللبنانية» فقلت في نفسي لقد زال الحرج فإذا كان سبعة ملايين لبناني في الداخل والمهجر يشكلون أمة لبنانية مع أنهم جزءٌ من الأمة العربية فلا حرج أن يشكل قرابة تسعين مليوناً أمة مصرية أيضاً على نحو لا يتعارض مع الهوية العربية أو الالتزام القومي الذي لا ينبغي أن نبرحه أبداً، «فمصر» كبيرة بأمتها العربية وقوية بنسيجها الداخلي الذي يشكل أمة مصرية ولا أرى تعارضاً بين الاثنين على الإطلاق إذ أن بينهما مساحة كبيرة مشتركة في إطار سبيكة تاريخية وثقافية تشكل من منظور حضاري الشخصية المصرية المعاصرة، ولعلنا ونحن نعيش موجة التفاؤل المبكرة بوصول رئيس وطني إلى قمة السلطة، لعلنا في هذه المرحلة نعيد صياغة الدور المصري عربياً من أجل تحديد حركتنا الإقليمية بشكل يتجاوز أخطاء الماضي، دعنا نوجز ذلك في النقاط التالية:
أولاً: يختلف الكثيرون حول مفهوم الدور الإقليمي لمصر لأن معظمهم يرى أن «مصر» دفعت ثمناً باهظاً لدورها القومي ويجدون في «حرب اليمن» (1962 ـ 1967) نموذجاً للتحرك خارج الخريطة المصرية من أجل التزامٍ عربي حتى ولو كان قومياً بامتياز، لذلك وقر في ذهن البعض أن الدور الإقليمي يعني التورط في مغامرات خارجية يدفع فيها الشعب المصري تكاليف غالية وهذا التفسير المغلوط يبدو كالحق الذي يراد به باطل لأن الدور الإقليمي لمصر هو جزءٌ من شخصيتها التاريخية وليس وافداً جديداً ولا موقفاً طارئاً بالنسبة للكنانة، فعلى أرضها التقت الحضارات وامتزجت الثقافات وامتد دورها الإقليمي قيادياً وريادياً في الحرب والسلام معاً، «فمصر» بلد لا يقبل العزلة ولا يعيش وحده فهي جزءٌ من قارتها الإفريقية وأمتها العربية وعالمها الإسلامي، فضلاً عن أنها أكبر دولة على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط في مواجهة أوروبا لذلك كان طبيعياً أن تكون «مصر» دولة مركزية محورية يلجأ إليها الجميع في الشدائد والمهمات، كذلك فإن «مصر» تحصد عائداً إيجابياً من دورها الإقليمي المقبول في معظم الأوقات والذي لا تستغني عنه بمنطق الجغرافيا وحكم التاريخ، إنها عبقرية المكان والزمان والسكان.
ثانياً: إن التعارض المفتعل بين «المصرية» و»العروبية» يمثل قضية قديمة بل ومستهلكة لأن الإنتماءين لا يتعارضان، فالإنتماء للجزء لا يعني أبداً الانسحاب من الكل، لذلك فإن الاعتراف بوجود هوية مصرية مستقلة لا يعني أبداً أننا ضد مفهوم «العروبة» أو أننا لا ندرك أن «العروبة» قد انتقلت في «مصر» من مدلولها الثقافي إلى دورها السياسي بعد «ثورة يوليو 1952».
ثالثاً: إننا ندرك أن الدور الإقليمي له تكاليفه ولكن مردوده أكبر بكثير مما يتم إنفاقه، فنحن نقصد بالدور الإقليمي ضرروة الاشتباك مع القوى الأخرى في المنطقة والاشتباك هنا بمعناه السياسي والدبلوماسي والإعلامي، فلا يمكن أن نتصور مثلاً أن تنفرد «إيران» بالحديث أمام «الولايات المتحدة الأمريكية» باسم «الشرق الأوسط» و»غرب آسيا» بدعوى أن ما بينها وبين الغرب هو حوار حول «الملف النووي» بينما هي تستأثر بتحديد التصور المستقبلي للمنطقة مع «واشنطن» رغم أن ما يدور على السطح يوحي بالعداء بينهما وهو أمرٌ لن يكون وارداً في المستقبل، وكذلك يفعل «الأتراك» بتطلعاتهم الشديدة و»أحلام اليقظة العثمانية» التي تنتاب قياداتهم من حين لآخر، بينما تظل «إسرائيل» هي اللاعب العنصري العدواني الذي يرصد ما يدور ويستفيد من كافة الأحداث في المنطقة، فكيف والحال كذلك للدولة المصرية أن تظل رهينة مشكلاتها وحبيسة ظروفها أو منكفئة على نفسها أو مبتعدة عن غيرها، ولعلنا نتذكر الآن أن حروب «الشرق الأوسط» في الصراع العربي الإسرائيلي كانت فيها القيادة لمصر وأن مسيرة السلام بعد ذلك كانت فيها أيضاً الريادة لمصر فهي طرف أصيل في إدارة الصراعات في المنطقة، لذلك يجب أن نظل أصحاب موقف مما يدور في «العراق» وما يجري في «سوريا» وما يحدث في «لبنان» وأن نكون شريكاً فاعلاً في أمن «الخليج»، فضلاً عن دور حيوي يقوم على الندية والشراكة التنموية مع دول «حوض النيل» وصلات وثيقة مع دول «شمال أفريقيا» العربية لأن «مصر» تاريخياً دولة تقوم على معادلة ثابتة هي أنها تعطي سياسة خارجية تدعم بها أوضاعها الداخلية واستقرارها السياسي وانتعاشها الاقتصادي.
هذه قراءة في ملف «الدور المصري إقليميا» وهو الذي يرتب بالضرورة مكانتها الدولية وسوف نجد أنه يعتمد بالدرجة الأولى على عروبته، ولذلك فإن أعداء التوجه العربي لمصر لا يقرأون التاريخ ولا يفهمون الجغرافيا ولا يدركون المدلول العميق للدور المصري في هذه المنطقة من العالم، كما أنه يتعين علينا أن ندرك أن «مصر» بلدٌ فريد في تكوينه له خصائص جعلت منه نقطة التقاء على البوابة الشمالية الشرقية لإفريقيا في مواجهة كل من «آسيا» و»أوروبا»، أي أن الدولة المصرية التي كانت مركز العالم القديم يجب أن تظل في حالة توهج دائم وتعامل مستمر مع القوى الإقليمية والدولية انطلاقاً من مفهومٍ عروبي لأن «مصر» كبيرة بأشقائها مثلما هم أقوياء بها!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46572
تاريخ النشر: 10 يونيو 2014
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/292696.aspx