تحظى دراسة «المستقبليات» بالاهتمام الأكبر من جانب المعنيين «بالدراسات الإنسانية» إلى جانب المغرمين «بالخيال العلمي»، ولقد وقع في يدي من خلال إحدى الدوريات الأجنبية دراسة عن أحوال العالم في عام 2050 وهي تبحث في التطورات المحورية والتحديات الكبرى التي سوف تواجه البشرية.
كما تطرح الحلول المقترحة التي يجب أن تتسلح بها كل دولة تريد أن تجتاز الطريق نحو المستقبل، والمؤلف ألماني هو د.إيبريل الحاصل على الدكتوراه في «الفيزياء» و«الكيمياء» و«الأحياء» وتقنيات «الجينات» وفضلاً عن كونه عالمًا فذًا فإنه يعمل في شركة عالمية عملاقة هي «سيمنز» كما أنه رئيس تحرير مجلة «صور المستقبل» وهو يستهل كتابه بحكمة وردت على لسان العالم الأمريكي «آلن كاي» الذي قال (أفضل الطرق لاستشراف المستقبل هي أن نخترعه بأنفسنا) وهي دعوة واعية لأن يشارك الإنسان في صناعة مستقبله بالابتعاد عن السلبية التي تجعله مجرد كيانٍ ينتظر ما سوف تأتي به الأيام، ويضيف ذلك العالم الألماني أن ذلك هو الفرق بين العالم الأول «الذي يصنع المستقبل» والعالم الثالث الذي يكتفي بالخوف منه أو يقنع بالمعيشة فيه، ويطرح ذلك الكتاب المهم عددًا من الحقائق نوجزها فيما يلي:
أولاً: يبلغ عدد سكان المعمورة عام 2050 ما يقرب من 95 مليار نسمة منهم 6 مليارات يسكنون في المدن فهل استعدت البشرية لهذا الزحف من الريف إلى الحضر؟! وكيف يمكن تغطية احتياجاتهم من الطاقة؟ ومن أين للكرة الأرضية بالطعام الذي يكفي لهذه الأعداد؟! وإلى أين ستذهب مخلفات وقمامة هذه المليارات؟! ويجيب المؤلف بنفسه عن تساؤله لكي يقول إن الحل هو تطوير آليات «إعادة التدوير» للاستفادة من هذه المخلفات بدلاً من إنتاج مواد جديدة، ولنا أن نتخيل الفائدة الكبيرة لو تمكنت مدينة ضخمة مثل «القاهرة» من تدوير مخلفات ملايينها الخمسة عشر!
ثانيًا: يتحدث المؤلف عن التطور في تكنولوجيا الطب وأساليب التشخيص والعلاج، فهو يرى على سبيل المثال إمكانية اكتشاف الخلايا السرطانية في بداية تكونها من خلال كاميرات دقيقة متناهية الصغر سوف يمكن زرعها في الأنسجة لتسبح في جسم الإنسان، ويضيف إن تطور العلاج والدواء سوف يؤدي إلى ارتفاع متوسط أعمار الأشخاص بحيث تصبح نسبة من يبلغون المائة سنة عام 2050 هي نفس نسبة الأشخاص الذين يبلغون السبعين حاليًا، ولا يمكن تجاهل حقيقة معينة في هذه الحالة وهي أن مئات الملايين من كبار السن سوف يكونون بالضرورة عبئًا إضافيًا على المباني والطرق والمطارات والفنادق والأندية فضلاَ عن المستشفيات بالطبع! ويرى المؤلف أن «الإنسان الآلي» القادر على خدمة كبار السن لم يعد خيالاً علميًا بل تحقق بالفعل فهو يتلقى الأوامر ويلبيها ويجهز الأطعمة ويحضر المشروبات كما تختزن ذاكرة «الكمبيوتر» آخر المواقع التي زارها الشخص بحيث يستطيع الإنسان الآلي تحديد المشروب المفضل لكل شخص أو الطعام الذي يريده على نحو يجعله مساعدًا جيدًا في كثير من المجالات.
ثالثًا: يقول المؤلف إن شركة «سيمنز» التي يعمل بها قد بدأت قبل خمسة عشر عامًا في رسم صورة المستقبل من خلال التوفيق بين عنصرين يمضيان في اتجاهين متضادين الأول هو ما يعرف «بالاستقراء الخارجي» والثاني هو ما يعرف باسم «السيناريو المستقبلي» أو بتعبيرٍ آخر «النظرة إلى الوراء من المستقبل»، ويوضح المؤلف ـ صاحب الخيال الخصب الممتزج بالحقائق الواقعية ـ أن «الاستقراء الخارجي» هو عبارة عن توقعات المستقبل مثلما تفعل غالبية الشركات الصناعية، أما آلية «السيناريو المستقبلي» فهي التي تسعى إلى الحصول على أكبر قدرٍ من المعلومات عن الماضي والحاضر والمستقبل والتطورات السياسية والاجتماعية ومشكلات البيئة والتربة والمناخ لكي تخرج بنظرةٍ من المستقبل إلى الحاضر، أي هي عملية عكسية لتلك التي تسعى إلى «توقعات المستقبل».
رابعًا: يجنح المؤلف بخياله العبقري إلى حلٍ جديد لمشكلات «النقل»، ويقدم هنا مثالاً بما طرحته بعض أفلام الخيال العلمي عن «السيارة التي تطير» حيث لا تحتاج إلى الوقوف في زحام السير أو إشارات المرور، وتوفر الوقت والوقود وتسهم في نظافة البيئة ويضيف المؤلف في مفاجأةٍ غير متوقعة أن تلك السيارة التي تطير ليست محض خيال، بل إن هناك شركة أمريكية اسمها (تيرا فوبيا) تقوم بإنتاجها بالفعل وذلك بغض النظر عن سعر السيارة الطائرة الذي يبلغ نحو مائتي ألف دولار، ولكن المشكلة أن إقلاع السيارة لايمكن أن يتم إلا من أرضية «مطار» وبالتالي فإن السائق لا يستطيع أن ينطلق بها من أي مكان، بل عليه أن يبحث دائمًا عن أقرب مطار مع تحديد مسارات مختلفة في الجو لكل سيارةٍ طائرة، وهنا يستحيل تنظيم طيران ملايين السيارات في الجو مع صعوبة تأمين أصحابها ضد الحوادث، ويريد المؤلف أن يقول بذلك أنه ليس كل تقدمٍ تقني بالضرورة هو أمر ممكن، إذ أن المصاعب المادية قد تجعل بعض الاختراعات حبيسة شرائط أفلام «الخيال العلمي»، ولكنه يضيف أن السيارات الكهربائية سوف تصبح هي القاعدة وليست الاستثناء، كما يؤكد أن تقبل الناس للاختراع بذاته يلعب دورًا خطيرًا في درجة شيوعه، فإذا كان «مترو الأنفاق» يسير في «باريس» منذ سنوات بطريقة آلية ودون وجود سائق فإن البعض في كثيرٍ من الدول سوف يشعر بالقلق ولن يقبل أن يضع حياته في يد جهاز آلي للتحكم! وأضيف هنا ساخرًا أن صديقًا لي شعر بقلقٍ وتوتر عندما علم أن كابتن الطائرة التي يركبها هي سيدة؟! إن الطريق لايزال طويلاً!
.. لا أريد أن أستطرد كثيرًا مع خيال المؤلف حول العالم 2050 خصوصًا وأنه قد اكتفى بالحديث عن الجانب «التقني» وطبيعة «التقدم العلمي» وتجاهل طبيعة التطور الإنساني الذي يمثل جوهر الحياة ومضمون التقدم، فليس المستقبل هو مجرد شبكة متقدمة من المكونات التكنولوجية، ولكنه قبل ذلك يتمثل في مجموعة حيّة من علاقات الإنتاج والتواصل بين الأجيال والرغبة المشتركة في السلام الاجتماعي .. دعونا نتأمل قيمة الإنسان ومكانته عام 2050 كي نتحقق من تنامي الأبعاد البشرية والآفاق الإنسانية في مفهوم التطور متذكرين مقولة «تشارلز داروين» بأن (الكائنات الأكثر قابلية للتأقلم مع المتغيرات هي التي تستطيع البقاء) لذلك تبقى «مصر» خالدة بعبقرية الزمان والمكان والإنسان.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46670
تاريخ النشر: 16 سبتمبر 2014
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/326128.aspx