عرفت مصر فى الفترة الليبرالية من تاريخها الحديث (19 ـ 1952) وضعًا سياسيًا أقرب إلى النظام البرلمانى من سواه، حيث كانت الأحزاب السياسية ـ وفى مقدمتها حزب الوفد ـ ذات تأثير على الساحة أكبر بكثير مما هى عليه الآن، فالنظام البرلمانى يشترط لقيامه أن تكون هناك أحزاب سياسية قويّة تستطيع أن تنهض بالبرلمان الذى يقود مسيرة البلاد، ولقد عرفت مصر فى تلك الفترة من تاريخها برلمانًا ذا مجلسين هما مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وعندما أعاد الرئيس السادات الأخذ بنظام المجلسين استبدل بمجلس الشيوخ مجلسًا للشورى حتى جاء دستور 2013 فألغى مجلس الشورى بعد جدلٍ طويل لتعود البلاد إلى برلمان المجلس الواحد، وكانت حجة الكثيرين ممن اعترضوا على وجود مجلس الشورى هو أن الأخذ بنظام المجلسين يوائم ظروف الدول المركبة ومعظمها فيدراليات تحتاج إلى تمثيل مزودج بحيث يعبر أحد المجلسين عن المواطنين جميعًا بغير استثناء بينما يعبر الآخر عن الولايات أو الكيانات السياسية للدولة وفقًا لأوزانها النسبية، ولقد أدى قرار دمج المجلسين فى مجلس واحد للنواب إلى ردود فعلٍ متباينة خصوصًا على مستوى الأمانة العامة لمجلس الشعب السابق، فضلاً عن موظفى الشورى الحاليين، وهنا نتقدم بملاحظاتٍ حول البرلمان القادم فى ظل الظروف التى يمر بها الوطن المصرى وأهمها:
أولاً: يصعب التنبؤ تمامًا بهوية المجلس القادم وكل من يدعى غير ذلك هو واهم لايعرف الشارع المصري، لذلك فإننى أندهش عندما أجد بعض الأصدقاء يتحدثون فى ثقة عن تركيبة المجلس القادم وتوزيع حصص العضوية فيه بل والوصول إلى اختيار رئيس المجلس وهيئة المكتب ورؤساء اللجان! وهذا إفراطٌ فى التوقعات وثقة زائدة بالوضع عمومًا، ولم أسمع فى حياتى عن برلمانٍ تجرى محاولات تشكيل قياداته قبل أن يتم انتخابهم بالفعل من قواعدهم الشعبية، وكأننا نضع العربة أمام الحصان وليس العكس وهو الوضع الطبيعي!
ثانيًا: إن الأحزاب السياسية المصرية ضعيفة للغاية وأتحدى من يستطيع أن يتذكر أسماء الثمانين حزبًا أو يزيد على الساحة المصرية حتى إن معظمنا عندما يقال أمامه اسم حزبٍ لا يعرفه فإنه يتساءل عن بعض الشخصيات المهمة فيه لعله يتعرف من خلالها إلى هوية ذلك الحزب وتوجهاته، ولا أظن أن الأمر سيستمر كذلك، فمن المؤكد أن انتخابات مجلس النواب القادم سوف تكون بمثابة اختبار شامل للأحزاب السياسية القائمة بحيث تتم عملية غربلة، فكل حزبٍ لا يحصل على مقاعد فى البرلمان قد يفقد مبرر وجوده لأن الأصل فى الحزب السياسى هو السعى نحو السلطة وإلا أصبح لا يتعدى دوره إحدى الهيئات الأهلية أو الجمعيات الخيرية، ولابد أن يفكر المصريون بجدية فى تدعيم النظام الحزبى وتقوية هياكله التنظيمية وأدواره السياسية ومنشوراته الإعلامية.
ثالثاً: إن الأصل فى الحزب السياسى كما يعرفه الفقيه الدستورى الفرنسى موريس ديفرجيه أنه تجمعٌ يقوم على مبادئ معينة وأهداف مشتركة ويسعى للوصول إلى السلطة ولذلك فإن الشرط الأخير هو فصل الخطاب فى تعريف الأحزاب، وإذا كان الحزب ساعيًا إلى السلطة بالضرورة فإن عليه أن يربى كوادر سياسية تصلح لمواصلة العطاء وديمومة الكيان السياسى للحزب، لذلك قالوا إن الأحزاب السياسية هى مدارس لتربية الكوادر وإن كنت لا أرى ما يؤكد ذلك فى بلادنا! ومازلت أتذكر حضورى لمؤتمر حزب المحافظين البريطانى فى مدينة بلاك بول عام 1975 وكيف جرى فى إحدى جلسات مؤتمر الحزب أن دفع المحافظون بالسيدة مارجريت تاشر لتتقدم الصفوف ـ وقد كانت وزيرة للتعليم ـ لكى تتجه إلى زعامة الحزب بحكم التصعيد الذى تم لها، ونحن نعرف أن اسم تاتشر يناطح اسم ونستون تشرشل فى التاريخ البريطانى الحديث كما أنها بطلة حرب الفوكلاند، حتى إن بعض استطلاعات الرأى تضعها سابقةً على تشرشل ذاته.
رابعًا: لم تعرف مصر فى تاريخها الحديث حزبًا انبثق من الشارع المصرى وعبَّر عن حركة الجماهير التلقائية فى جمع التوقيعات لتفويض الوفد المصرى فى محادثاته مع الجانب البريطانى من أجل الجلاء، إلا ما أسميناه حزب الوفد بعد ذلك وهو تعبيرٌ عن الليبرالية السياسية مع مسحةٍ علمانية ودورٍ وطنى تاريخى فى دعم العلاقة بين الأشقاء من المسلمين والمسيحيين فى إطار الجماعة الوطنية المصرية، لذلك تصدى حزب الوفد لتدخلات القصر الملكى فى الحياة السياسية وظل مصطفى النحاس بعد سعد زغلول قابضًا على مبادئ الوفد كما ظل صامدًا حتى رحيله، كما يكفى أن نتذكر أن فؤاد سراج الدين سكرتير عام الوفد قد علم بحركة الضباط الأحرار قبل ثورتهم ولم يبلغ الملك لأنه يمثل حلقة متينة فى سلسلة رائعة كان فيها مكرم عبيد ومحمد صبرى أبو علم وغيرهما من السكرتارين العامين لذلك الحزب الذى يمثل وعاء الحركة الوطنية فى فترة ما بين ثورتى سعد زغلول وجمال عبدالناصر.
خامسًا: إن الأخذ بالتنظيم السياسى الواحد بعد 1952 بدءًا من هيئة التحرير مرورًا بالاتحاد القومى والاتحاد الاشتراكى ثم حزب مصر فالحزب الوطني، أقول إن تلك المسيرة الأحادية قد أثرت سلبيًا على روح التعددية فى الشارع السياسى المصرى وسلبته القدرة على الحوار الفاعل وأدت إلى قصورٍ واضح فى نوعية الكوادر الوطنية المشتغلة بالحياة السياسية.
.. إننى أريد أن أقول إن مجلس النواب القادم سوف يكون اختبارًا حقيقيًا للتغييرات التى طرأت على الشخصية المصرية بعد ثورتين متتاليتين فى يناير 2011 ويونيو 2013، ومالم تتغيَّر روح البرلمان وشخوصه وأفكاره فإننا نكون أمام إعادة استنساخ للماضى بكل سلبياته، إننا نتطلع إلى مجلسٍ نيابى واعد وصاعد يضم من الكفاءات من يستطيعون تحويل الدستور الجديد إلى منظومة قانونية كاملة وتنقية النصوص من الشوائب القديمة وطرح البدائل السياسية والفكرية أمام الشباب حتى يتقدموا بخطوات ثابتة نحو الغد الأفضل.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46698
تاريخ النشر: 14 أكتوبر 2014
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/331050.aspx