كلما تأملنا فى أسباب التقدم ودرسنا ظواهر التخلف أدركنا أن نهوض الأمة يرتبط بوجود مؤسساتٍ قوية ذات تقاليد راسخة لا تتأثر بالتغيرات الطارئة ولا تذوب فى شخصية الأفراد القادمين والذاهبين مهما بلغ شأنهم وارتفع تأثيرهم.
ولكن بعض الدول التى لم تضرب بسهم وافر على طريق النهضة سقطت فى أحضان «الفرد الواحد» وأصبحت أسيرةً لنفوذه، نقول ذلك لكى ندلل على أن المؤسسة هى الأصل، وأن الفرد الذى يقودها أو يدير شئونها هو ابن لها ونتاج منها ولا يمكن أن يذوب الكيان الكبير فى شخص واحد، لذلك فقد عانينا كثيرًا فى بلادنا من طغيان «الفرد» على «المؤسسة» بحيث تتحوّل إلى جزءٍ منه وذلك لأسباب نورد بعضها فيما يلي:
أولاً: إن إحساس المسئول الكبير بأنه مؤبدٌ فى موقعه يجعله ينكر على غيره حق «تداول السلطة» و«دوران النخبة» فتتوقف عملية الصعود والهبوط وندخل فى مرحلة من الجمود تؤدى بالمؤسسة إلى الترهل، وهى مازالت فى سنوات شبابها لأن التوقف عن ضخ دماءٍ جديدة واستمرار إدارة واحدة لفترات طويلة هو أمر عانينا منه كثيرًا ودفعنا ثمنه دائمًا إذ إن بقاء المسئول على مقعده لعشرات السنين هو كارثة حقيقية تؤدى بالمؤسسة التى يديرها إلى الاختفاء خلفه والانزواء بجانبه.
ثانيًا: ما أكثر المؤسسات الغربية الراسخة التى تواصل عطاؤها وتأكدت قيمتها، لأنها عرفت عنصرى الجدية والاستمرار وكلاهما لا يرتبط بفرد ولا يعتمد على شخص، فالكل زائل ولكن تبقى المؤسسة فى النهاية هى الصامدة والباقية، ولو تأملنا فى تاريخنا الوطنى لوجدنا أن المؤسسات فى نموها وازدهارها قد ارتبطت بأفرادٍ بعينهم واقترن صعودها بهم فظل عطاؤها محكومًا بوجودهم وانهارت قيمتها بعدهم! إذ إنه حين يكون الفرد على قمة مؤسسةٍ تنفيذيةٍ أو حزبية أو نقابية فإنه يحاول أن يقرن اسمه بها وكأنما يذكرنا بأحد ملوك «فرنسا» الذى قال (إن فرنسا هى أنا وأنا فرنسا) ولو أخذنا المؤسسة الدبلوماسية التى انتميت إليها سنواتٍ طويلة ـ كمثال ـ لوجدنا أن تلك المؤسسة العريقة ترتبط فى مراحل تطورها بأسماء الوزراء اللامعين فى تاريخها بسبب مركزية العمل فى الخارج وطبيعته الدولية، أما مؤسسة القضاء ـ على سبيل المثال أيضًا ـ فإنها تحتفظ بقدرٍ كبيرٍ من الاستقلال واللامركزية بحيث يصبح من يدير العمل فيها هو «الأول بين متساوين» ولا نكاد نجد الفارق الكبير بين الأعلى والأدني.
ثالثًا: إن مصر دولة مؤسسات عرفت الجامعات والأحزاب والنقابات بل والجمعيات الأهلية منذ أكثر من مائة عام، وأضافت إليها مؤسسات ثابتة مثل «القوات المسلحة» و»الشرطة» و»القضاء» و»الجهاز الدبلوماسي» فضلاً عن مدارس مهنية تميزت بها وتفوقت فيها مثل «مدرسة الرى المصرية» التى ارتبطت بالنهر من منبعه إلى مصبه، ومدرسة «السكة الحديد» التى بدأت بثانى خط حديد فى العالم والذى جرى إنشاؤه على أرض «مصر» فى منتصف القرن التاسع عشر، من هنا فإن دولة بهذا التاريخ العريق والحجم الكبير يجب أن تدافع عن استمرارها ورسوخ الكيان التاريخى لمؤسساتها، فالذى يدرك قيمة الاستمرار دون انقطاع هو الذى يفهم معنى التواصل فى تاريخ الأمم وحياة الشعوب.
رابعًا: إن المؤسسة ذات الطابع السياسى لا تختلف عن غيرها فى الحاجة الماسة إلى الدماء الجديدة التى تضخ فى شرايين الوطن، فإذا كانت «الأمة هى مصدر السلطات» وفقًا للمنطوق المعروف فى الدساتير الحديثة فإن الأمة ذاتها هى التى تحدد دور الفرد على نحوٍ متوازن فهى لا تقهره ولا تسحقه كذلك فإنها أيضًا لا تقدسه ولا تدمن الدوران حوله! فالشخوص إلى فناء أما الأمم والأوطان فلها حق البقاء، من هنا تبرز أهمية الديمقراطية واتساع حجم المشاركة السياسية بحيث لا نكون أسرى عبادة الفرد أو تقديس الحاكم مع اعترافنا بمفهوم «البطولة» وظاهرة «الزعامة» التى لا يجادل أحد فى أهمية كل منها على صعيد الفكر والحركة.
خامسًا: إن «كاريزما الفرد» تعمى الأبصار وتحجب الرؤية وإذا كنّا لا ننكر وجودها لدى البعض فإننا نطالب بتوظيفها فى خدمة مؤسسة الوطن كله وإن كان ذلك لا ينتقص من حقيقةٍ أخرى وهى أن الزعامة ذات الكاريزما العقلانية تختلف عن الكاريزما «الديماجوجية» فالشعوب لا تأكل الشعارات ولا تعيش على العبارات، ولكنها تريد دائمًا لأجيالها القادمة النهوض والصعود والارتفاع إلى مستوى حياة العصر بإمكاناته الهائلة وقدراته المتزايدة، «فالكاريزما» ليست مرضًا إذا أحسنا التعامل معها، ولكنها ظاهرة يجب أن توضع فى إطارها الصحيح لخدمة الوطن، إن «كاريزما غاندي» كانت عظيمة، و«كاريزما مانديلا»، كانت رائعة وكاريزما «شارل ديجول» كانت مؤثرة لذلك كله فإننا لا نقف ضد ظهور «الكاريزما» ولكننا نطالب بتوظيف دورها لخدمة الرؤية الوطنية ورعاية أهداف الدولة وصيانة أمنها القومى والحفاظ على مصالحها العليا.
سادسًا: إن المؤسسة الصغيرة تذكرنى دائمًا بقصيدة «إيليا أبو ماضي» عن (الحجر الصغير) الذى تستند عليه كيانات أكبر وأكبر فلا يجب أن نقلل من تأثيرها وحجم وجودها لأن المؤسسة الأكبر تعتمد عليها، كما أن المؤسسة الكبرى وهى الوطن كله تمضى إلى الأمام بنجاحها وتنتكس بإخفاقها، إن دور الفرد دور حاكم لا ننكره, ولكنه يجب أن يصنع المنظومة المتكاملة للبقاء والاستمرار مهما تكن الظروف لأن وجود شخصٍ على قمة المؤسسة هو أمر مرهون بعوامل متعددة ولكن بقاء المؤسسة هو حاجةٌ ثابتة لا تنتهى مع الوقت.
سابعًا: إن طغيان السلطة التنفيذية فى بلادنا على باقى السلطات ـ وهذه حقيقة تاريخية ـ مصدرها نشوء المجتمع المركزى النهرى منذ فجر التاريخ فتكون لدينا جهاز إدارى عتيد قد يجعل المؤسسة تشيخ وتهرم ويتراجع دورها ويقل عطاؤها ومع ذلك لا تنالها يد التجديد ولا تأخذها حيوية العصر! من هنا فإن طغيان الجهاز التنفيذى للدولة المصرية هو ظاهرة سلبية تعانى منها باقى السلطات وتدفع ثمنها فى الحاضر والمستقبل.
.. هذا عرض موجز لإثبات حقيقة مؤكدة وهى أن تضخم حجم الفرد على حساب المؤسسة هو انتكاسةٌ حقيقية تؤدى إلى التراجع الكامل لمسيرة التقدم فى وطنٍ نريد له الصعود والازدهار.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46754
تاريخ النشر: 9 ديسمبر 2014
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/345337.aspx