تشغل المصريين جميعًا هواجس مستقبلية تتعلق بما يمكن أن يخفيه القدر لهذا الوطن واضعين فى الاعتبار أن إرادة الشعوب تصنع المعجزات.
وذلك يعنى أن بمقدرونا أن نغيَِّر ملامح المستقبل وفقًا لقدرتنا على توجيه الحاضر نحو غاياتٍ محددة وأهدافٍ واضحة، وإذا تأملنا جيدًا خريطة الحياة المصرية فى كافة جوانبها لوجدنا أنها حافلة بالخيارات التى يمكن الانتقال بينها والانتقاء منها للخروج نحو مستقبلٍ أفضل، ولعلنا نقدم هنا بعض هذه الخيارات والبدائل الموجودة عنها:
أولاً: إن علينا أن نحدد منذ البداية الرؤية التى نسعى للوصول إليها أو «دولة الحلم» و»مجتمع الأمل» اللذين نهدف إلى بلوغهما، فالهنود فى بداية الخمسينيات بزعامة «جواهر لال نهرو» وضعوا تصورًا لمستقبل بلدهم ومضوا فيه إلى النهاية لذلك فإن «مصر» مطالبة الآن برسم الخطوط العريضة ووضع التصور الشامل لهذا البلد على المدى القريب والبعيد، إننا نريد أن نتحدث عن «مصر عام 2020» وعن «مصر 2050» محددين الأهداف والغايات ومختارين الوسائل والخطط لتحقيق ما نسعى إليه إذ أن الهدف هو دولة عصرية حديثة تقوم على سيادة القانون وتهتم بالبحث العلمى وتستغرق بجدية فى المشروعات التنموية وتفكِّر فى الأجيال القادمة وتبنى صروحًا لمستقبلٍ أفضل يضع «مصر» على المسار الصحيح.
ثانيًا: كان يمكن أن يحدث العكس أيضًا فتأتينا مفاجأة خلال سنوات قليلة قادمة وهى أننا شيدنا بلدًا يقوم على «التعصب» و»ضيق الأفق» و»قصر النظرة» مع انعدام القدرة على فهم المتغيرات حولنا فيزداد التعليم تراجعًا وتتدهور الرعاية الصحية ونعيش فى جدلٍ دائم نتحدث عن الماضى ونلوك شعاراتٍ لا طائل وراءها ولا جدوى منها وفى هذه الحالة نكون قد اخترنا طريق «الانتحار» وأعملنا معاول الهدم فى بلدٍ يجب أن يكون من أرقى بلاد الدنيا وأهم دول العالم، إن الطريقين متاحان وعلينا أن نحزم أمرنا بشدة وأن نقتحم المستقبل فى جسارة وأن نضع الجدية أسلوبًا، والاستمرار المتواصل طريقًا وإلا ضاعت آمالنا وتشتت أحلامنا.
ثالثًا: إن مشكلة مصر ليست فقط فى ظروفها الداخلية الضاغطة ولكنها تتجاوز ذلك إلى ماهو أكبر إذ أن الفضاء العربى يعانى من تشوهات لا تخفى على ذى بصيرة كما أن «الإرهاب» يستهدفه من كل جانب، ولم يواجه العرب من التحديات مثلما هم محاطون به حاليًا، من هنا فإن الخطوات التى تقطعها «مصر» سوف تكون بمثابة مؤشر للوضع العربى العام فى المنطقة، ولا توجد دولة معاصرة تحتمل الضغطين الداخلى والخارجى فى آنٍ واحد، فلقد واجه «عبد الناصر» ضغوطًا خارجية ولكنه حسم أمر الضغوط الداخلية منذ البداية، أما «السادات» فقد تراجعت من حوله الضغوط الخارجية ولم تتصاعد عليه كثيرًا الضغوط الداخلية، إلا أن «مصر» الآن تواجه النوعين من الضغوط معًا بما يجعل خياراتها صعبة وقدرتها على مرونة الحركة غير متاحة بالقدر الذى تحتاجه.
رابعًا: إن دورًا بديلاً ينتظر «مصر» ولابد من الإقدام عليه وأعنى بذلك الإقدام على الانتقال السلمى من أجيال تنصرف بحكم معايير الأعمار إلى أجيالٍ قادمة تتجه نحو المستقبل بعد شعورٍ طويل بالتهميش حيث احتكرت أجيالٌ كل ما يتصل بمقدرات الوطن لعقودٍ طويلة وآن الأوان لكى تتجه «مصر» نحو الاستقرار وتسعى إلى تنمية حقيقية وديمقراطية كاملة.
خامسًا: إن السياسة الخارجية المصرية محتاجة إلى التوازن بين دورها العربى ووجودها الإفريقى مع تحديد ملامح هويتها الوسطية المرتبطة بموروثها الثقافى وتراثها التاريخى الذى عرفها الناس به وساندوها من أجله إذ لا بد أن تتميز «مصر» بما أدركه من ارتبطوا بها وعاشوا فيها، إن «مصر» التعددية والتسامح والانفتاح الثقافى والليبرالية الفكرية يجب أن تستعيد ما كانت عليه.
سادسًا: إن المشكلة السكانية تظل هى مشكلة المشاكل أمام المستقبل المصري، ولقد أفزعنى أن معدل الزيادة السكانية بعد ثورة 25 يناير قد تزايد وهو ما يعنى أننا غير جادين فى الإصلاح ولا حتى راغبين فيه إذ لا تقاس قيمة الأمم ومكانة الدول بحجم سكانها ولكن بإمكاناتها الاقتصادية ودورها الإقليمي، فالتعليم والصحة بل والإسكان والنقل تتأثر كلها بمخاطر الانفجار السكانى الذى عرفته «مصر» فى العقود الأخيرة خصوصًا وأننا نواجه زيادة فى الكم وانخفاضًا فى الكيف، وليست الظواهر المؤسفة فى حياتنا من عشوائيات وأطفال شوارع وبلطجةٍ ممنهجة إلا عوارض لحالة الزحام الناجم عن الزيادة السكانية الهائلة!
سابعًا: إن الخيارات الوطنية تتأرجح صعودًا وهبوطًا وفقًا لظروف كل عصر ورموزه، فلا يتصور أحد أن الشعوب تبنيها شعارات أو تقيمها سياسات جزئية تؤدى إلى السقوط فى متاهة التفاصيل دون وجود رؤية شاملة تسمح بالانتقال من العام إلى الخاص وليس العكس، فالنظرة الجزئية تدمر معالم الطريق وتسمح بحالة من التشتت الذى لا يؤدى إلى ما يجب أن تكون عليه أمم تبنى وشعوب تنهض، ولو تعود المصريون أن يحترم كل منهم خيارات غيره دون تحامل أو تجريح أو إسفاف فإننا يمكن أن نتحدث عن درجة عالية من الجدية افتقدناها عبر السنين.
.. إن قصارى ما أريد أن أذهب إليه هو أن أدق ناقوس الخطر قائلاً إن حركة الشعوب أمام عنصر الزمن تبدو كالعوم ضد التيار فهى تحتاج دائمًا إلى قوة دفعٍ نحو الأمام ولا تسمح بحالة السكون النظرى الذى لا يؤدى إلى نهضة مأمولة أو تقدم مطلوب، إننى أدعو ـ على المستوى العربى كله إلى روحٍ جديدةٍ من التضامن وفقًا لنظام السرعات المتفاوتة بين الأشقاء ولنا فى «الاتحاد الأوروبي» قدوة لأنه لم يفرض أمرًا ولم يجبر أحدًا، فالخيارات حرة والبدائل متاحة والقافلة تمضى نحو غاياتها.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46768
تاريخ النشر: 23 ديسمبر 2014
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/348974.aspx