اختلف «المناطقة» فى تحديد أفضلية البدء «بالجزء» قبل النظر إلى «الكل» ورأى بعض آخر أن فحص «الكل» مقدمةٌ ضرورية لسلامة «الجزء» واختلف «الفلاسفة» حول أهمية الانتقال من العام إلى الخاص أو العكس من الخاص إلى العام.
ونحن نقترب من مفهومٍ نريد أن نصل إليه ونعنى به الرؤية الشاملة فى مواجهة النظرة الجزئية، إذ أن الاستغراق فى الفروع والغرق فى التفاصيل يؤديان إلى حالة من التيه ويحيلان خطط المستقبل وبرامجه إلى جزرٍ منعزلة ليس بينها ضابط ولا رابط فضلاً عن تشتيت الأفكار وبعثرة الجهود، وأنا ممن يؤمنون بأن تأمل المشهد بالكامل هو الذى يسمح بتعديل فصوله أو تغيير أبعاده، إذ لا فائدة على الإطلاق من الالتقاط الجزئى خارج الإطار العام دون الاستناد إلى أفكار واضحة لدى من يمضون وراءها ويسعون إليها، لذلك اخترت عنوانا لهذا المقال يدور حول هذا المعنى أو يقترب منه، لأننى مؤمن بأن العلاقة بين الكل والجزء، بين العام والخاص، بين الرؤية الكاملة والنظرة الضيقة هى شبيهة بالعلاقة بين «الغابة» و«الشجرة»، فقد تكون الأشجار باسقة جميلة المنظر وهى تقف فرادى ولكنك إذا نظرت إلى «الغابة» نظرة فوقية فسوف تكتشف أنها لا تبدو بذلك الجمال والرونق الذى يجب أن تكون عليه فالنباتات عشوائية والتنسيق غائب والمناظر متشابكة والصور متداخلة، وذلك الأمر ينطبق على «الأوطان» أيضًا عندما نضرب فى كل اتجاهٍ بسهم بينما يغيب التصور الشامل الذى يقوم على «الخيال» البعيد الذى صنع المجتمعات الكبرى وحقق الإصلاح فى كثير من دول العالم، إن حق الخيال منحة إلهية لايجب التفريط فيها وهى التى تعطى القدرة على استشراف المستقبل وقراءة ماهو قادم والسعى نحوه والمضى لتحقيقه، أقول ذلك وفى خلفية تفكيرى «الحالة المصرية»، بما لها وما عليها، بإيجابياتها وسلبياتها، بمعاناتها فى الحاضر وآمالها فى المستقبل، وأقدم هنا الملاحظات الآتية:
أولاً: إن «فقه الأولويات» أمر يستحق الاهتمام ويستوجب التفكير، لأن الفارق بين دولة وأخرى وشعبٍ وآخر هو القدرة على ترتيب سلم الأولويات وتحديد المهم فالأقل أهمية ولا يمكن أن نترك الأمور تمضى فى كل اتجاه بشكل عبثي، إذ أن تحديد الرؤية والاتفاق على الهدف وتصويب المسار هى كلها مقوماتٌ لازمة للإصلاح السياسى والاقتصادى والاجتماعى بل والدينى أيضًا، ونحن أحوج ما نكون إلى تحديد «أولويات ترتيب البيت» فى ظل الظروف التى يمر بها الوطن المصرى بعد ثورتين شعبيتين وسقوط نظامى حكم فى فترة وجيزة، إن حق الخيال واستشراف المستقبل أمران طبيعيان فى بناء الدول وتقدم الأمم ونهضة الشعوب.
ثانيًا: هناك نظرية تقليدية فى علم الاقتصاد تتحدث عن «أقطاب النمو»، أى التركيز على قطاع معين يجر قاطرة الإصلاح وراءه، ولقد ركزت تجارب وطنية كثيرة على قطاع بذاته تملك فيه «ميزة نسبية» ورأت أن الإصلاح فيه يؤدى إلى التقدم الشامل ويقود قاطرة التنمية، بينما رأت نظرية أخرى فى المقابل أن المضى على جبهة عريضة للتنمية أمر أكثر ضمانًا، على اعتبار أن القطاع المتقدم يشد إلى جانبه قطاعًا آخر أقل تقدمًا مع التسليم بقاعدة السرعات المتفاوتة، حيث إن تخلف أحد القطاعات لايعنى توقف غيره، فالتنمية الحقيقية تقوم على ناتج القطاع الأسرع فى إطار الجبهة العريضة وفقًا لتلك النظرية، والسؤال المطروح حاليًا إلى أى المدرستين ينتمى التطور الإصلاحى الحالى فى «مصر»؟
ثالثًا: إن مشكلات مصر فريدة من نوعها، لأننا لسنا بلدًا فقيرًا ولا غنيًا، ولا متقدمًا ولا متخلفًا، ولكن لدينا خليط من كل ذلك، فهناك مواقع إذا زرتها أصابك تفاؤل بغير حدود وأخرى إذا وقعت عينك عليها أصابك تشاؤم شديد، إننا بلد لم يعرف الخطوات المنتظمة فى اتجاهٍ واحد ولكنه كان يمضى أحيانًا فى اتجاهاتٍ متضادة وأحيانًا أخرى كانت الأمور تمضى بنظرية «محلك سر»، لذلك لم نتمكن حتى الآن من تحديد مسار عصرى لاستكمال ملامح الدولة الحديثة، فالتخلف والتقدم يمضيان معًا، والخرافة والعلم يسيطران معًا، إن «مصر» تحتاج إلى جيش من علماء الاجتماع والدراسات السلوكية، ربما قبل جيش الاقتصاديين والسياسيين أيضًا، كما أن الثقافة التى تعكس أسلوب الحياة قد تعرضت فى السنوات الأخيرة إلى ارتباكٍ بين الأجيال المختلفة وخلاف فى المسارات بصورة لم نشهدها من قبل، لذلك فإن المشكلة الرئيسة لمصر تكمن فى شبابها الذى يمثل الشريحة الأكبر من أعمار المصريين ولكنه يشعر فى الوقت ذاته بدرجة من التهميش التى تراكم الإحساس بها من النظم المتعاقبة وشيوع الفساد وسطوة الاستبداد! ولابد لهذا الشباب أن يستعيد الثقة فى وطنه من خلال قيادته الجديدة والرؤية التى تطرحها للمستقبل.
رابعًا: لقد حقق الرئيس «السيسي» اختراقات كثيرة فى الداخل والخارج وينبغى أن يكون كل ذلك فى إطار صفقة فكرية واحدة ونظرة شاملة، أما الأخذ بالمحاولات الجزئية فإنه يفيد فى بعض الوقت ولكنه لا يؤدى إلى نتيجة دائمة كل الوقت، خصوصًا أن الرجل يسعى فى كل اتجاه من «الولايات المتحدة الأمريكية» إلى «الصين» ومن «غرب آسيا» إلى أرجاء القارة الأم «إفريقيا» فضلاً عن صورة مشرقة لدى أشقائنا العرب خصوصًا فى الخليج، إنه الحاكم الذى زار «الصين» واستقبل رئيس وزراء اليابان» فى «القاهرة» خلال أسبوع واحد، وهو الذى يحاول الارتقاء بالخطاب الدينى ليعبر عن صحيح الإسلام ويأخذ بروح التجديد فى ذات الوقت، وهو الرئيس الذى رعى الوحدة الوطنية بزيارة مفاجئة للأشقاء الأقباط فى كنيستهم الكبرى فى أثناء صلاة عيد الميلاد، فلا أحد يشكك فى صدق مسعاه ولكن الخطورة تكمن فى ضرورة وجود بلورة شاملة لضرباتٍ ناجحة فى كل اتجاه تحتاج أن تتحوّل إلى رؤية شاملة فى التفكير ونظرة متكاملة فى التنفيذ.
.. تلك رؤية خالصة لوجه الله والوطن .. وأى وطن إنه أقدم الأوطان!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46810
تاريخ النشر: 3 فبراير 2015
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/357832.aspx